من أجل فقراء أفريقيا.. وصفة للخروج من النفق

TT

لم يحصل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير على كل ما أراد من زيارته لواشنطن، لكنه عاد بأكثر مما توقعه الخصوم، بعد ان بذل جهودا كبيرة لإقناع زعماء قمة الثمانية التي يترأسها الشهر المقبل، لدعم جهاده لإنهاء الفقر في افريقيا بزيادة الدعم لبلدانها بـ50 مليار دولار سنويا مع حلول العام 2015 .

اتفق بلير مع الرئيس الأميركي جورج بوش (7 يونيو الحالي) على الغاء ديون الأمم الأفريقية جنوب النيجر، مع تعويض البنك الدولي بدفع قيمة الفوائد. والأمل ان ينهي وزراء مالية الدول الثماني الذين يلتقون اليوم (السبت) تفاصيل هذه الخطط التي يتدخل عاملان لعرقلتها.

الأول هو السياسة، حيث أقنع الفرنسيون والألمان اليابانيين، بقصر مسامحة الدين على خمس بلدان افريقية فقط (اثيوبيا، ومالي، والنيجر، وموريتانيا) وغيانا (أميركا الجنوبية)، والثاني هو خيلاء مشاهير الفن وغرورهم بالدعوة العاطفية لإلغاء الديون.

رأى المعلقون الأوروبيون، واغلبهم من اليسار المعادي لأميركا، مهمة بلير فاشلة، معتبرين زيادة الرئيس بوش المساعدات الأفريقية بـ 674 مليون دولار لا تكفي. وربما اصابتهم حمى حملة الغاء الديون بقيادة المغني الشعبي السير بوب غيلدوف (منحته جلالة الملكة اللقب مكافأة على حماسته في جمع التبرعات لمنكوبي المجاعات وليس لعبقرية موسيقية، مثل بول مكارتني، مغني وموسيقار فرقة البيتلز التي وضعت صناعة الموسيقي البريطانية في مقدمة سوق الموسيقى العالمي منذ الستينات.) والتي ضمت مطربين، كستينغ، وبونو; والموديل الألمانية الشقراء الفارهة القوام كلوديا شيفرز.

وتجاوز اندفاع السير بوب البلاغي الدائرة الخيرية ليحث التلاميذ لهجر الدراسة والتظاهر في شوارع العاصمة الأسكتلندية، التي دعى مليون لاحتلالها، لدفع مجموعة الثمانية الى شطب ديون العالم الثالث.

ورغم نبل عواطف المشاهير، فدعوتهم غير مسؤولة تجاه دافع الضرائب الاسكتلندي خاصة وان عنف المتظاهرين في قمة جنوة لا يزال حاضرا في الذاكرة، الى جانب جهل المشاهير بأبسط قواعد الاقتصاد.

ورغم تمخض سياسة الرئيس بوش الخارجية عن مشاكل كثيرة، فهناك نقلة ثورية في زيادة الدعم. فتاريخيا لا تقدم أميركا الا اقل من 0.2% من ناتجها القومي للدعم الخارجي، رغم ان اعضاء الكونجرس يعتقدون ان 24% من الميزانية الفيدرالية يضيع في مساعدات الخارجية، حسب استطلاع أجرى بينهم عام 2001. وهنا يكمن نجاح بلير في اقناع بوش بزيادة الدعم رغم اعتراضات الكونغرس.

قدمت واشنطن لأفريقيا ما يزيد على سبعة مليارات من الدولارات في عام 2003 ـ نصيب مصر قرابة الثلث، 4,6 مليار دولار لبلدان جنوب النيجر. ويصل هذا الدعم 2005 الى 7,753، (منها 1,2 مليار مساعدة عسكرية لمصر، و 900 مليون مساعدة اقتصادية) يخصص منها 5,653 للبلدان الأفريقية الأخرى.

خصصت واشنطن 15 مليار دولار في خمس سنوات للمساعدة في مكافحة مرض نقص المناعة المكتسب AIDS تحظى منها افريقيا بنصيب الأسد، بينما خصص مليار دولار لبرامج الوقاية من المرض، مقابل 643 مليونا في العام الماضي..

اما مساهمة أميركا بـ47 مليون دولار لبرنامج التنمية الدولي لتخفيض المجاعة في افريقيا الى النصف في عشر سنوات، فيمثل تحولا نوعيا في سياسة المساعدات الخارجية الأميركية رغم تواضع الرقم، لتنسيقها دوليا بدلا عن المبادرات الفردية في اطار الاتفاقيات الثنائية.

فالمساعدات الاقتصادية والعسكرية لبلد افريقي واحد هو مصر، تزيد على ثلث اجمالي الدعم المخصص للقارة كلها، تتم في اطار اتفاقيات ثنائية، تضع المصالح السياسية قبل الاعتبارات الإنسانية، لأن مصر اهم حليف لأميركا وحلف الناتو في افريقيا.

و برامج المساعدات ترتبط بالتجارة العالمية، فالأخيرة نشاط يضاعف ثراء الأغنياء، ويكرس ـ بالشكل الحالي ـ بؤس الفقراء، وهم المتلقون للمساعدة من الأغنياء.

اسأل تلميذا يدرس ابسط مبادئ الاقتصاد، سيجيبك ان تدويل التجارة والأسواق، Multilateralism وربط المنتجين بالمستهلكين عالميا، هي أرضية ضرورية لنجاح التجارة العالمية ولرفاهية الجميع، بدليل نمو عضوية منظمة التجارة العالمية الى 184 بلدا في فترة قصيرة. وبالمقارنة فالثنائية اوBilateralism قد تعرقل سهولة تحرك البضائع والأفراد، رغم جاذبية هذه السياسة، لحماية الإنتاج القومي والوظائف، للسياسي الذي يدفع بالإجراءات الحمائية على حساب التزام بلاده باتفاقيات التجارة العالمية كمكسب مؤقت بالحصول على اصوات انتخابية. وخير دليل على ذلك، تزايد الشكاوى المقدمة من الأميركيين والأوروبيين والصينيين ضد بعضهم البعض لمنظمة التجارة العالمية، وفي تصويت الأوروبيين لرفض الدستور الاوروبي الموحد.

واذا كان تدويل التجارة افضل اقتصاديا على المدى الطويل من الاتفاقيات الثنائية، فلماذا لا تطبق قمة الثمانية ذلك على سياسة دعم الفقراء خاصة، بتوجيه الدعم لأفريقيا عبر مؤسسات عالمية مثل البنك الدولي لأنه افضل من الصليب الأحمر كمنظمة خيرية تساعد لوجه الله، بينما يضع الأول شروطا اقتصادية وسياسية توفر ظروفا أكثر واقعية لإنجاح المشروع.

وقبل نصف قرن، اشترط البنك اتفاق الهند وباكستان مع دول الجوار قبل تمويل مشاريع سدود مائية كي يستفيد الجميع، وكرر البنك ذلك بين سوريا وتركيا بالنسبة للمشاريع المائية في تركيا عام 1955 .

وارجو الا يعبأ بلير لغوغائية المتظاهرين والابتزاز العاطفي للمشاهير. فإلغاء ديون افريقيا من دون شروط سيكون كارثة على شعوبها التي سرقت الأنظمة الديكتاتورية اموالها. فوائد الديون الملغاة ستنتهي الى حسابات سرية في سويسرا، وجيوب تجار السلاح وشركات بناء قصور الحكام، ومصممي الازياء الباريسية لزوجات رؤساء مثل روبرت موغابي الذي حول زيمبابوي الى شعب من المتسولين. ومن الحكمة تشكيل لجنة دولية لمراقبة مصاريف الحكومات الأفريقية، مع تحويل الدعم، عن طريق البنك الدولي لتوظيف اقساط الديون في مشاريع انتاجية حسب ظروف البلدان. وبدلا من اثراء شركات الدواء الغربية بشراء دواء الإيدز منها وتصديره لأفريقيا، يجب اقناعها بإعادة انتاج ادوية الايدز في معامل افريقية توظف الأفارقة، بمصاريف اقل.

مشاريع تجميع الجرارات الزراعية، او استصلاح الاراضي، او تقديم دجاجة او عنزة الى طفل يتيم كنواة لمشروع انتاج غذائي للبيض والألبان حتى ببضعة دولارات، افضل عمليا من الغاء الديون.

وحان الوقت لتعميم مفهوم العولمة الذي دعي اليه الأثرياء، بفتح اسواق شمال أميركا وأوروبا امام المنتجات الأفريقية لمكافحة البطالة وتوفير الدخول.

«اعطى رجلا سمكة، توفر له عشاء، اما اذا علمته الصيد فتطعمه مدى الحياة»، هو قول صيني.

وعشاء غيلدوف وشيفرز على انغام الموسيقي قد يجذب اضواء الكاميرات ليومين، اما توفير نظام انتاجي وفتح الاسواق لمنتجات القارة فسيكون خطوة عملية لإنهاء الفقر على المدى الطويل.