ابتسامة لورا بوش.. ومستقبل الدبلوماسية العامة الأمريكية

TT

مثلت زيارة لورا بوش إلى المنطقة مؤخرا نموذجا صارخا لفشل «الدبلوماسية العامة» الأمريكية، وهو فشل يرجع بالأساس إلى طبيعة العقلية التي تحكم واشنطن في الوقت الراهن.

فالهدف من الزيارة كان استغلال شعبية لورا بوش لتحسين صورة أمريكا في العالم العربي.

فقد ثبت من استطلاع للرأي بعد الآخر أن السيدة الأمريكية الأولى، تتمتع بشعبية تفوق بكثير تلك التي يتمتع بها زوجها، وهو الأمر الذي تم استثماره في الحملة الانتخابية للرئاسة في الخريف الماضي على أوسع نطاق.

ثم ركزت الآلة الدعائية للبيت الأبيض على أحد أهم القوى المراد تطويعها، فكانت لورا بوش هي نجم الحفل السنوي للصحفيين الأمريكيين. ويبدو أن نجاحها الطاغي في تلك المهمة قد اقنع هؤلاء بأنها الأفضل لبدء مرحلة جديدة من الدبلوماسية العامة في المنطقة، التي تحظى أمريكا فيها بأقل شعبية حول العالم.

اكثر ما يلفت الانتباه هو ذلك الاختزال المذهل في المنطقة الذي كان وراء الزيارة، فهو يقوم على فكرة بالغة الطرافة من فرط سذاجتها، مؤداها انه بما أن لورا بوش تحظى بشعبية كبيرة داخل أمريكا، فإنها بالضرورة ستحظى بتلك الشعبية خارجها!

غير أن الأمر يذهب في الواقع إلى ما هو ابعد من مجرد منطق فاسد، يقوم على غياب العلاقة بين المقدمة الصحيحة والاستنساخ الذي يتم القفز إليه، فالأخطر هو أن المسألة تتعلق أيضا بإعادة إنتاج مشوهة للثقافة السياسية الأمريكية ذاتها.

فالزيارة قامت في الوقت نفسه على فكرة أمريكية بامتياز، وهي «لنبدأ من جديد» ففي أعماق الثقافة السياسية الأمريكية تكمن تلك الفكرة، وهي المسؤولة عن خاصية أمريكية أخرى مهمة هي التفاؤل، نابعة من ذلك التفكير البرجماتي، الذي يعتبر كل يوم جديد بمثابة بداية جديدة تدعو للأمل والتفاؤل.

ففي بداية التجربة الأمريكية واجه مجتمع المهاجرين صعابا شتى تعوق حياتهم اليومية، وكان هؤلاء لا يملكون ترف الاستسلام لتلك العقبات، الأمر الذي كان يدفعهم للمحاولة من جديد أملا في نتيجة افضل، ومن ثم فإن فكرة التفاؤل تلك تلقى ترحيبا تلقائيا لدى عموم الأمريكيين، كونها ترتبط بجوهر الحلم الأمريكي، وهي الفكرة التي استخدمها رونالد ريجان في حملته الانتخابية، والذي أثبتت الدراسات انه اسهم في الفوز على كارتر الذي كان يتحدث وقتها عن «الاحتلال الأمريكي».

لكن هذا التفاؤل الذي كان دوما أحد أهم مكامن القوة الأمريكية، قد تم قلبه على عقبيه في عهد بوش الابن، بعد تفريغه من محتواه. فقد ظل ذلك التفاؤل دوما مبنيا على مواجهة الفشل واستخلاص دروسه، ثم الانتقال فورا إلى بداية جديدة، بعبارة أخرى، كان مكمن القوة والذي ميز الأمريكيين عن غيرهم، هو انهم كانوا يسعون إلى الوقوف على أسباب الفشل بشكل حاد، ولكنهم لا يستغرقون بلا نهاية في البكاء على اللبن المسكوب، وإنما ينطلقون فورا إلى السعي نحو بداية جديدة لتصحيحه.

أما الآن فقد صار التفاؤل هدفا في حد ذاته، يستخدم لأغراض الدعاية لأهداف أيديولوجية، دون أن يعني ذلك بالضرورة اعترافا بالفشل أو دراسة أسبابه، أي هو تفاؤل من اجل التفاؤل، منزوع الصلة بالقيمة الحقيقية التي كانت تميز الثقافة السياسية الأمريكية.

إلا أن الأخطر من ذلك هو انه صار يعني بالضرورة، تفاؤلا يقوم على محو الذاكرة. فالذي يبدأ اليوم للجديد هنا شخص جديد لم يعش بالأمس، عقله صفحة بيضاء لا يحمل خبرات ولا تجارب يرتكز إليها للتفاعل مع الحاضر.

لذلك كانت زيارة لورا بوش للمنطقة لا تخلو فعلا من الطرافة. فهي قد أرسلت لفتح «صفحة جديدة» بالمنطق الجديد، لا المنطق الأمريكي التقليدي الذي ميز الثقافة السياسية الأمريكية، ولكنها للأسف أرسلت إلى منطقة من العالم ذات ذاكرة طويلة، بل تلعب فيها الذاكرة الوطنية دورا محوريا، سواء في فهم جوهر صراعاتها أو في حل مشكلاتها، أو حتى في التعامل مع حاضرها ومستقبلها، ومن ثم كان التناقض صارخا والفشل بالقطع ذريعا. والى ذلك لم يكن هناك ما هو اكثر بلاغة في التعبير عن ذلك التناقض، من ابتسامة لورا بوش بالغة الهدوء، التي قابلت بها المتظاهرين الفلسطينيين الغاضبين، عندما زارت موقعا محفورا بامتياز في الذاكرة الجمعية العربية.

* مصرية متخصصة في شؤون الأقليات