طريق المفاوضات المسدود بقرار أميركي

TT

قريباً ستصل كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية الى المنطقة وتجتمع مع محمود عباس وآرييل شارون، وقريباً سيلتقي شارون مع محمود عباس، بعد أن طال أمد الانتظار لهذا اللقاء، فهل سيسفر هذان اللقاءان عن دفع باتجاه التسوية السياسية؟ الكل يتمنى ان يحدث ذلك، وإن كانت الوقائع على الأرض تنفي كلها حدوث أمر من هذا النوع، والأدلة على ذلك كثيرة.

العنصر الأهم في المعادلة هو الولايات المتحدة الأميركية وسياستها. ولسنوات كثيرة خلت، كانت الإدارة الأميركية تعمل باتجاه مفاوضات تسفر عن تسوية سياسية. وضعت الإدارة برئاسة جورج بوش الأب منطلقات العمل في هذا الاتجاه، ثم أكملت العمل إدارة الرئيس بيل كلينتون في دورتين انتخابيتين متلاحقتين. ولكن الأمور تغيرت جذرياً عند وصول الرئيس جورج بوش الابن الى السلطة مع مطلع العام 2001 .

تتركز الأسباب المعلنة للتغير حول أمرين:

الأمر الأول: أن الرئيس كلينتون قدم الكثير للرئيس الراحل ياسر عرفات في مفاوضات كامب ديفيد وما تلاها، وقد رفض عرفات التقديمات الأميركية، ولا تستطيع أية إدارة أميركية أن تعطيه أكثر، علاوة على أنه يجب أن يعاقب على رفضه هذا. وترجمة ذلك أن الرئيس بوش لن يتعاطى بعد الآن مع عرفات.

الأمر الثاني: أحداث 11/09/2001 الإرهابية التي هزت الولايات المتحدة الأميركية، ودفعتها إلى أن تجعل من معركتها ضد الإرهاب أولوية لها تتقدم على أي شيء آخر. إضافة إلى اعتبارها المقاومة الفلسطينية جزءاً من عملية الإرهاب، واعتبارها مقاومة شارون للنضال الفلسطيني مشاركة في الحرب الأميركية ضد الإرهاب.

ومع أننا لا نستطيع أن نغفل تأثير هذين الأمرين على السياسة الأميركية المتعلقة بالتسوية السياسية، إلا أننا لا نستطيع أن نجد فيها التفسير الكافي للانقلاب السياسي الأميركي بشأن التعاطي مع الصراع العربي الاسرائيلي ككل، ومع الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي بشكل خاص. التفسير الحقيقي كامن في السياسة الأميركية المرسومة، والتي جاء الرئيس جورج بوش الابن إلى السلطة ليطبقها، وتصادف ان هذا الوصول ترافق مع فشل مفاوضات كامب ديفيد، ومع أحداث 11/9 الإرهابية، فأتاح ذلك للسياسة المرسومة سلفاً أن تجد منصات انطلاق أقوى وأعلى.

إن سياسة بوش المرسومة سلفاً قبل قدومه، كانت تتطلع ولا تزال إلى دور قيادي حاسم في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، من ضمن رؤية ترى أن الولايات المتحدة الأميركية أصبحت الدولة الأقوى والوحيدة في العالم، وعليها أن تستثمر موقفها هذا حتى النهاية. لقد رسم هذه السياسة المحافظون الجدد، وأطلق عليها فيما بعد وصف السياسة الامبراطورية، واتخذت إزاء منطقتنا وصف «الشرق الأوسط الكبير»، وتمت الترجمة عملياً بأمرين:

الأمر الأول: هو حرب العراق واعتبار السيطرة على العراق منصة السيطرة على الشرق الأوسط الكبير، باتجاه جيرانه أولاً، ومنبر التغيير من داخله كي يتماشى مع السياسة الأميركية التي تمت تغطيتها بشعارات الحرية والديمقراطية.

الأمر الثاني: يسبق حرب العراق، وهو الذي يتعلق بفلسطين وبالتسوية السياسية. إذ منذ العام 1996، قدم المحافظون الجدد مذكرة إلى بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك، نصحوه فيها أن لا يواصل تطبيق اتفاق اوسلو، وأن يتصرف منطلقاً من ان اسرائيل دولة قوية، يجب أن تأخذ ما يتناسب مع قوتها في المنطقة، وأن لا تقدم للفلسطينيين أو للعرب، تنازلات تعتبر بهذا المعنى مجانية. وقد نفذ نتنياهو ذلك فعلياً.

وحين جاء آرييل شارون إلى السلطة، واصل تنفيذ سياسة نتنياهو حتى آخرها. متشجعاً بأن المحافظين الجدد أصبحوا هم رجال البيت الأبيض، ولم يعودوا مجرد خبراء يقدمون نصيحة سياسية لرئيس الوزراء الاسرائيلي. ونجد على ضوء ذلك سياسة إسرائيلية تقوم على ما يلي: رفض التفاوض، ورفض شعار الدولة الفلسطينية والتقرير المنفرد حول ما تريد اسرائيل الاستيلاء عليه (القدس والضفة الغربية والمياه والسيادة)، على ان يترك الباقي للفلسطينيين (إدارة شؤون المعيشة). كما نجد على ضوء ذلك سياسة أميركية هي الأهم، وهي المقرر والموجه، وهي سياسة تقوم على ما يلي: رفض اتفاق اوسلو، واعتماد خطة خريطة الطريق، واعتبار خطة الانسحاب المنفرد من قطاع غزة تطبيقاً فعلياً لخريطة الطريق (أي اعتماد السياسة الاسرائيلية)، وعدم التعامل السياسي مع القيادة الفلسطينية، على ان يقتصر هذا التعامل حول موضوعي الأمن والاقتصاد. ولهذا نجد إلحاحاً أميركياً (واسرائيلياً) على ضرب ما يسمى البنية التحتية للارهاب، وتوحيد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، مع الاستعداد لتقديم مساعدات (50 مليون دولار) لتحريك الاقتصاد الفلسطيني.

وحين تصل كوندوليزا رايس إلى رام الله، لن تكون محادثاتها مع محمود عباس بعيدة استراتيجياً عن هذا المنحى، وقد تقدم على طلب خطوات تحسينية من اسرائيل، تقوم على تخفيف وطأة الحواجز، وتسهيل تنقل الفلسطينيين، وتسهيل فرص حصولهم على عمل، وتسهيل تنقلهم بين قطاع غزة والضفة الغربية، عبر ما يعرف بـ (الطريق الآمن) الذي نصت عليه اتفاقات أوسلو، والتي يرفض شارون الاعتراف بها، ويقترح بدلاً منها خط قطار يصل بين غزة والضفة. وقد لا يخلو الأمر أيضاً من مساعدات اقتصادية أميركية جديدة للفلسطينيين، أما السياسة بمعناها الاستراتيجي وبمعناها اليومي، فتبقى مشدودة إلى ما ترسمه اسرائيل لنفسها.

إن الوضع الجديد هذا، يعبر عن موقف أميركي يرى أن حل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، والفلسطيني ـ الاسرائيلي، يأتي من خلال نجاح تجربة الشرق الأوسط الكبير، وليس من خلال المفاوضات. يأتي من خلال الديمقراطية وليس من خلال الدولة الفلسطينية. وهنا لا بد ان نلاحظ المعنى العميق (وليس المعنى السطحي والمباشر فقط) الذي عبر عنه الرئيس بوش، حين أبدى إعجابه غير العادي في كتاب الوزير اليميني شيرانسكي عن الديمقراطية. لقد تحدث عنه علناً أكثر من مرة. وأثنى عليه اكثر من مرة. ليس من أجل التقريظ فقط، بل ليقول إن الديمقراطية هي طريق التفاوض والاتفاق، وان الشرق الأوسط الكبير الديمقراطي هو طريق الحل وليس المفاوضات.

ولا بد أن نتذكر هنا أن بنيامين نتنياهو أصدر في الثمانينات كتابه (تحت الشمس)، وعرض فيه إلى موقفه من التسوية السياسية مع العرب رافضاً اتفاقات تقوم على أساس المفاوضات، وداعياً الى حلول تقوم على أساس القوة، أي على أساس تفوق اسرائيل العسكري، وذلك لأن الدول غير الديمقراطية لا تستطيع ان تنجز سلاماً. ولا يكون السلام مع هذه الدول إلا بعد أن تنجز الديمقراطية، والديمقراطية بمعناها العميق، أي تغيير بنية المجتمعات، وليس الانتخابات فقط. لقد عُدَّ كتاب نتنياهو في حينه تجلياً واضحا للفكر اليميني الفاشي، الذي يرفض المفاوضات والتسويات والسلام. ولكنه ها هو الآن يصبح جزءاً من النظرية الأميركية لتغيير العالم، ولنشر الديمقراطية والحرية، ولإنشاء الشرق الأوسط الكبير الذي تحتل فيه اسرائيل مكان القلب.

وستصل كوندوليزا رايس، وستتفاوض وستقول كلاماً منمقاً جميلاً، إنما من دون أن ينسى أحد، أنها أحد صناع فكر المحافظين الجدد، وأنها المسؤولة عن وضعه موضع التنفيذ.

[email protected]