مؤتمرات أحزاب.. إلام هذا الاستغفال..؟

TT

قابلت يوماً رجلاً عربيا من الشمال الافريقي، وكان فرحاً بزوال حكم طال عليه الأمد، وعفن مع تيبس مفاصل حاكمه فضحكت من سذاجته، وقلت له لقد جاء نفس الحاكم فلم يتغير، بفارق أنه أكثر فتوة وأمضى دهاء وقسوة، فلم يصدق كلامي.

وفي الأساطير اليونانية يتكلمون عن طير (الفينيكس)، أنه ودوماً يخرج من رماده طيرا جديدا، يعيد دورة الحياة فلا يموت أبدا، وفعلا هذا الذي حدث، بفارق أن الأمر أصبح أسوأ مما توقعت.

وأتذكر جيدا شابا سودانياً كان في ممر المستشفى، حيث كنت أعمل، يركض بحماس عام 1989، قلت له ما الخبر قال: انقلاب رائع في السودان؟ قلت له هو في الغالب من تدبير ثعلب السودان (الترابي)، قال لا، ليست رائحته إسلامية؟ قلت له، ولكن المهدي طار والرجل جاء بالديمقراطية؟ قال لا إنه كان ضعيفا ويجب أن يطير؟

وأتذكر أنني اجتمعت بشاب حلبي في اليمن، وكنت متفائلاً; فقلت له هذا السودان على طريق الديمقراطية، وكان سوار الذهب قد أعطى نموذجاً مميزا في العالم العربي بتركه السلطة، بدون قتل واعتقال وانقلاب، كما كان الناس قد ارتاحوا من النميري و«شريعته المدعاة»، فنظر إلي ضاحكاً وقال: غدا سوف تسمع خبر البلاغ رقم واحد، والسودان بلد القبائل، والديمقراطية مكانها سويسرا، وبين السودان والديمقراطية أربعون خريفا؟

وبعد سنوات تبين أن الانقلابي كان (ترابياً)، ثم انقلب الانقلاب على الانقلاب، وطار الترابي على يد الإخوان، كما طار البيطار وعفلق على يد الرفاق، بفارق أن البيطار طار رأسه في باريس، وحافظ الترابي على رأسه فوق كتفيه، بسبب قوة حجة القبائل، التي رواها لي الحلبي في اليمن.

وأتذكر من أيام القامشلي في الستينات، أننا كنا أطفالا نسمع أخبار الانقلابات بفترات متقاربة، وكنا نظن أن الأمور تمشي نحو الأفضل، فلم تزد إلا خسفا ومسخا. ولم يكن يخطر في بالنا ولا بالمنام، أن النظام الثوري سوف يصبح وراثيا، ولكنه صار. وهو مرض عربي لا يخص قطرا ثوريا من دون آخر، ففي كل بلد يستعد أبناء الثوريين الانقلابيين، لاحتلال مكان الآباء الجنرالات. بعد أن بارك الغرب هذا التوجه بعد استسلام الجنرالات الكبير، ودفع الجزية عن يد وهم صاغرون.

وفي يوم حصلت معركة في دمشق، تجمع لها الناس في اليوم التالي ليروا حصاد الهشيم يتفرجون على البطولات، بفارق أنه ليس كل الناس كان من الفرحين، فقد طارت رصاصة طائشة إلى بناية تجمعت فوقها عائلة فلسطينية ترقب المشهد مثل الألعاب النارية، وكانت المعركة يومها محتدمة عند مسجد الروضة في دمشق، فخرقت صدره فسقط صريعا، والأهل يظنون سقوطه من كل شيء إلا بالرصاصة وموت الشاب؟

وهذه الأيام انعقدت قيادة الحزب في دمشق، بعد مرور اثنين وأربعين عاما، فلم يتغير شيء سوى المظهر الخارجي، فيتقاعد الكبار، ويفرغون مقاعدهم لجيل مدرب على نفس العقلية.

وكما يقول المثل تمخض الجبل فولد فأرا، وسكت دهرا فنطق هجرا، وقالوا لقد تغيرت القوانين، فلم يعد وجود للاعتقال التعسفي؟ بل يقدم لمحاكم أمن الدولة؟ والمواطن الفقير المسكين يعرف تفسير هذا الكلام جيدا، وأي اعتقال هو ليس تعسفيا، بل زيارة ودية لفرع أمني، وهنا يكسب القاموس الحزبي كلمة، ويخسر الواقع حقيقة، ويلبس رجال المخابرات ثوب القضاة، فيحكمون بسجن مواطن أكل من الشجرة المحرمة من الإنترنت السنوات، لأنه سمح لعقله أن يتفتح، حيث يجب أن يكون نباتيا..

وإلى ذلك، ففي اجتماع الحزب الشيوعي العشرين، وقف خروتشوف فهاجم ستالين ولعنه في قبره إلى يوم الدين، فقام رفيق حزبي وصرخ من نهاية القاعة: وحضرتك أين كنت وقتها؟ فسكت خروتشوف وصمتت القاعة، وكأن الطير على رؤوس الناس، فنطق خروتشوف وقال: أين القائل؟ فلم يحر أحد جواباً؟ قال خروتشوف: هذا هو السبب، فكما سكتم سكت..!

فهذه هي، اجتماعات الحزبيين دائما، تجدهم «يضاهئون قول الذين كفروا من قبل».

اجتمعت الجماعة الحزبية، وقالت إن البلد يحتاج لإصلاح، ولكن من يتجرأ فيصلح؟ وكيف يصلح؟ وماذا يصلح؟ إنه مثل عملية تغيير رأس، واستبدال قلب، وزرع كلية، وتوصيل شرايين من دون مستشفى وعناية مركزة وجراحين وأدوات؟

الى ذلك ففي نكبة حزيران، التي توافق هذه الأيام وصف (مالك بن نبي)، مثل هؤلاء القوم في نكبة كبيرهم عبد الناصر، أنهم تصرفوا كالأطفال في حل مشاكلهم برفس الأرض والبكاء. وفي اليوم الذي سقط الجولان، كان الكثير من المعتقلين السياسيين يفرج عنهم من سجن تدمر ببركة هذا السقوط؟

والجيل الحالي لا يعرف ماذا حدث في تلك الأيام، وجيلنا هو جيل المحرقة والتيه والخوف، بعد أن وضع البلد في براد جليدي أربعين سنة.

ومن هنا، فأنا أتعجب من البعض حين يتوقعون أن محاور الزمن سوف تقلب، فتشرق الشمس من مغربها، فهذه قوانين اجتماعية، والخطأ منشؤه، هو أن من تمتع بالسلطة لا يتزحزح، فقد قست قلوبهم وغلظ فهمهم، وظنوا أن التاريخ كلمتهم.

ولكن لماذا هذا الوباء والغباء في العالم العربي؟

إنها بنية فرانكنشتاين، بدماغ من عائلتين، وقلب طائفي، وعمود فقري من ضباط تدربوا على القتل، وعضلات وعظام من الأقليات والريف والهوامش من الدهماء، وأحشاء من بورجوازية المدن المنحلة، فهل يمكن لهذا الكائن الخرافي أن يعيش إلا في الأساطير؟؟

وكما يقول رياض الترك في ثلاثيته المشهورة: النظام من الخارج ثوري ومن الداخل أميركي، ويمكن أن يصمد لريح العولمة، كما صمد القذافي بعد دفع الجزية، والنظام ضعيف والمعارضة أضعف، والعلاقة التي تحكم هذا الوضع هي توازن الضعف.

ومع ذلك فالمؤشرات اختلفت اليوم، فرياح العولمة تهب بريح صرصر عاتية، ومقتل الخزنوي سمع به أهل الاسكيمو وجزيرة هوكايدو، وصدامات القامشلي تتناقلها مواقع الإنترنت بسرعة الضوء، والمواطن الذي يعتقل ترسل خبره لجنة حقوق الإنسان إلى كل مكان، ومع ذلك فهناك من يتجرأون فيقتلون الصحافي اللبناني سمير قصير، وهم يظنون أنهم يقتلون سليم اللوزي، ويلوحون بمكانس الساحرات من العصور الوسطى، ليصطادوا أطباقا فضائية تئز فوق رؤوسهم بسرعة الضوء.

وهذا من قصر النظر وعمى القلب.