التأمين على الأصابع..!

TT

في خضم ما يجري منذ تاريخ أحداث 11 سبتمبر 2001 وإلى حد الآن، انشغل الجميع نخب سياسية وثقافية برمي الأوصاف وصيانة الشعارات، والإلحاح على فكرة أنّ العالم يخوض حربا ضد الإرهاب، وأنّ الشرق الأوسط الكبير ومختلف البلدان العربية، مقبلة على مرحلة الإصلاح وإرساء الديمقراطية، ولكن لا أحد حاول أن يفكر في المخاطر السرية المحفوفة بالإصلاح، لذلك ذهب في ذهننا أن المسألة سهلة، والمطلوب لا يتجاوز عقد ندوات حول الإصلاح والتحديث والحوار ، وتجنب إلحاق الأذى الكبير بالمعارضين، وغض الطرف قدر المستطاع عن الأقلام الناقدة ذات الحبر الناري.

ومع تتالي أحداث الاغتيالات وآخرها ـ ولن يكون الأخير ـ الصحافي سمير قصير، بدأت شاشة الفهم، تنكشف أكثر، ويتبدد الغموض المنتشر فيها، إلى درجة أصبح من واجبنا الاعتراف بأن حربا غير شريفة أخلاقيا تدور رحاها في الكواليس، وتستهدف بالاغتيال والقتل كل من يصدق أكثر مما يجب جدية الإصلاح. وبالتالي، فنحن لسنا مقبلين عن مرحلة الإصلاح، بقدر ما هناك فريق يخوض حربا من أجل الإصلاح، والفرق بين الوضعيتين واضح وكبير الفارق والمعنى والدلالة.

وفي نفس الوقت من المهم أن نفهم أيضا بأن الأمر لا ينتهي عند تحديد الحرب كإطار غير معلن لمشروع الإصلاح، بل لا بد من التوقف عند خصائص هذه الحرب التي تميزها عن حروب أخرى وهي:

* هذه الحرب تحمل ملامح الحرب الأهلية الداخلية والحرب مع الآخر الأجنبي.

* جنود هذه الحرب الصحافيون والكتاب أصحاب المواقف التحررية والمتبنية لجوهر مشروع الإصلاح، كما أملته القوة الأولى في العالم.

* ضحايا الحرب من أجل الإصلاح هم المدنيون والكتاب والصحافيون وفئات معينة من المناضلين السياسيين.

ومن منطلق هذه الخصائص نستطيع أن نعي بوضوح أكبر، مدى الخلل النفسي والثقافي الذي تتسم به الذهنية ذات الصوت الأول في مجتمعاتنا. وساعتها فقط يمكننا الاستيعاب الكامل لمعنى ثقافة النفي والإقصاء.

فعندما يغتال صحافي لأنه كتب مقالات جريئة ومستفزة للأطراف المضادة، وتنقل الفضائيات بشاعة الحادث، فحينها ندرك بشكل ملموس ومادي إلى أية درجة ذهنية النفي متغلغلة في أعماق اللاوعي، خصوصا أن لا شيء يرضي تغلغلها ويشفي غليله مثل القتل وإراقة الدم.

ولا شك طبعا بأنّ انصراف الصحافيين والكتاب ليس بالظاهرة الحديثة العهد، ويكفي أن نحصي الصحافيين الكبار والكتاب الذين حصدتهم العشرية السوداء في الجزائر. ولكن هذه الظاهرة القديمة قد ازدادت حدتها وتحولت من منطقة الهامش إلى المتن، ذلك أن الحروب الماضية كانت تصفّى فيها الحسابات في فضاءات مختلفة عن فضاءات اليوم. وإذا كان صاحب القلم في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مناضلا وجنديا ينتصر لقضية معينة من خلال مقالاته، وفي أغلب الأحيان يكون كاتبا غير مدعوم، فإن الأوضاع اليوم قد تبدّلت. وتحوّل صاحب القلم من جندي في حروب الأمس إلى صاحب خطة «عقيد» أو«عريف» في الجيش القائم بكل هذه الحرب من أجل الإصلاح.

ولأنّ البعد الإعلامي والاتصالي قد تطور في المجتمعات، فإنّ الوضع أصبح أكثر انتشارا وقوة وفوق القدرة على التضييق. فمن يستطيع اليوم أن يمنع صحافيا من أن يظهر على شاشات الفضائيات، ويتكلم بأعلى صوته ويسمي الأشياء بمسمياتها والأفعال بأوصافها والفاعلين بأسمائهم؟

لقد تكاتف اليوم القلم والصوت والصورة، وأصبحت يد الأنظمة أقل امتدادا والأصوات المناهضة للإصلاح معزولة، وفي طريقها إلى أن تصبح الأصوات الخافتة، بعد أن كانت الأصوات الأعلى في المجتمعات العربية. ومثل هذا الحراك الثقافي والسياسي، سيدفع فاتورته الكتاب والصحافيون الذين اختاروا أن يكون لهم دور وإقامة تحالفات معينة، من أجل نحت واقع سياسي واجتماعي وثقافي مختلف.

وبلفت النظر عن طبيعة المواقف الجريئة والتحالفات الدولية التي تقف وراء البعض منها، فإنّ الأجدر بالجميع الوقوف أمامه وإطلاق صيحة فزع تجاهه، هو سلوك القتل والاغتيال الذي يمارس ضد الكتاب، ذلك الجندي الجنرال في الحرب من أجل الإصلاح. ومن الخطأ الاستكانة لما يريد البعض ترويجه، ونقصد بذلك حقيقة أنه لا بد من فاتورة دموية تدفع من أجل الحرية وإقامة دولة الديمقراطية والاستقلال والمؤسسات وحقوق الإنسان، فهل يعقل أن نخسر الكفاءات التي بها تتحقق الحرية وتهدر أسماء ذات شأن في الكتابة والرأي والمعرفة، أم أن اللجوء إلى التأمين على الأصابع، قد يمثل بعض الحل. إنّ موت جندي في الحروب السابقة يعني فقدان رجل وطني، أما الكتّاب فهم خلاصة الوطن وصفوته، واغتيالهم هو اغتيال عقل وتدفق من الأفكار والمواقف.

أظن أنه يكفي مجتمعاتنا ملايين الشهداء التي زهقت أرواحهم في حروب حقيقية، وأخرى واهمة، وعلينا أن ندرك أن فقدان كاتب يساوي وليمة من الحزن، لو ندري، وأن ما نعتقد أنه ثمن للحرية وللإصلاح هو في الحقيقة تبذير وهدر تفرضه علينا أطراف تعيش حالة احتضار وتعلن: عليّ وعلى أعدائي!

[email protected]