أي لبنان ... بعد انتخابات 2005 ؟

TT

آخر ما كان يحتاجه لبنان .. هو أن يصبح ساحة يحدد الجنرالات فيها أسلوب الحوار السياسي. فالكل يعرف أن في تاريخ هذا البلد من العنف و«معموديات» الدم، اقتتالاً وانتقاماً ثم كفاحاً ومقاومةً، ما يكفي لعشرات الأجيال المقبلة. أما لماذا استدعت ضرورات الوطنية المزيفة ونظافة اليد المشكوك فيها والحرص الانتقائي على السيادة دفع لبنان من جديد إلى مرجل طائفي يغلي ... فالله أعلم.

الغريب أن دافعي البلد نحو المرجل يتصرفون وكأن خصومهم لا يدرون بنياتهم ولا يفهمون روح خطابهم التحريضي الصارخ حتى من دون التطرق لفظياً إلى كلمتي «مسيحي» و«مسلم». والغريب أيضاً أنهم يتصورون أنه ما زال باستطاعتهم خداع شركائهم في الوطن لمجرد أن نفراً من قيادات بعض الأحزاب اللبنانية ـ التي تدعي التقدمية ـ ارتضت بأنه تتحوّل إلى مطية رخيصة في خدمة شعارات التغيير والإصلاح التضليلية لقاء وعود بمقعد نيابي هنا أو هناك.

إن الأجواء التي رافقت التحضير لانتخابات جبل لبنان، التي ينتظر أن تعلن نتائجها الرسمية اليوم، كانت من أقسى، بل أقذر الأجواء التي عرفها لبنان المستقل في مسيرته الديمقراطية المترنحة. وكان حجم الأكاذيب والتحريض ضخماً ... حتى بمقاييس التكاذب التي صار جزءاً من نسيج لبنان المؤسساتي الاجتماعي.

ولكن ثمة أمرين اثنين يقفزان ـ في تقديري ـ إلى قمة مساوئ الخطاب الانتخابي الحالي هما: التضليل المتعمد للناخبين حول القضايا الخلافية الحساسة، و ـ استطرادا ـ إلغاء أي «خطوط حمراء» في معركة «الإلغاء» والاختراقات.

من الأمثلة على التضليل المتعمد إثارة موضوع المال السياسي والفساد وسوقه كأنه حكر على فريق دون آخر، وكذلك الإصرار على «تساوي» العلاقة مع سورية ، بين من اعتاشوا على فتات الأجهزة الأمنية ونفذوا تعليماتها صاغرين، وبين القوى العروبية التوجه التي ترفض أن تمر العلاقة مع سورية ـ بشعبها وهويتها وتاريخها ـ حصرياً عبر الأجهزة الأمنية، وبالتالي كانت على الدوام «مع سورية» ... ولو كانت «ضد دمشق» في تفاصيل الشأن اللبناني الداخلي.

لقد وجد أدعياء الطهارة والإصلاح من أجل «إلغاء» خصومهم مبررات غريبة لتعاونهم، ومن ثم تحالفهم أخيراً، مع أسوأ نماذج الانتهازية والفساد في لبنان الحديث ... من تجار التجنيس، إلى مشتري النفوذ من الأجهزة، مروراً بجلاوذة قمع الحريات العامة، وأبواق الاعلام المأجور.

والشيء نفسه يقال عن العلاقة مع سورية، التي يبدو أن البعض ما يزال مصراً على رفض فهمها كما يجب أن تفهم. فلبنان دولة عربية شقيقة لسورية بصرف النظر عن نوعية النظام السياسي الحاكم في أي من البلدين. ولكن هذا الواقع القومي لا يجوز أن يرهن لتفاصيل اجتهادات الحكم السوري في الشأن الداخلي اللبناني، وبخاصة عندما تفوّض ترجمته على الأرض إلى أجهزة خفية لا تخضع إلى أي مساءلة ... لا في لبنان ولا في سورية. ولذا أشك كثيراً في أن يكون وليد جنبلاط وسعد الدين الحريري «أقل عروبة» من كريم بقرادوني وميشال المر، لمجرد أنهما يخوضان إلى جانب المعارضة اللبنانية معركة الحريات العامة ودولة المؤسسات.

هذا الالتباس في الفهم، ولله الحمد، لا ينطبق على قوى قومية ووطنية ومقاومة كبرى أثبتت أنها تعرف كيف تميّز بين الغث والسمين. وكيف ومتى تتحالف مع من يمكن الركون إلى كلمتهم، في وجه «أصحاب» القرار 1559 .