حين يعلن الصحافي حيثيات اغتياله..!

TT

«إلى عزيزي المخلوق في أحسن تقويم ـ تحية طيبة وبعد:
سجل بأنني خائن وجبان. لك ذلك، فقط احترس من العبد لله. فبعدما تم بتر القوانين السماوية والوضعية والحريات، وبعد تحويل المجتمع إلى غابة شكلاً وموضوعاً، بت أتقن رغماً عن أنفي أساليب حياكة المؤامرات الخطرة، والدسائس الخبيثة. ولك في ذلك قصص وأحداث افتعلت وتفتعل يومياً، لتظل عبرة لمن يعتبر. وما أكثر القادرين على الاعتبار والعبرة.

سجل بأنني خائن وجبان، وأفهم جيداً: إن أساليب فقء العيون، وقضم الأذن، ونزع الأظافر وقطع الأصابع، وقص الأيدي والأرجل بالمنشار الكهربائي، وكسر عظام الجسد، وسكب ماء النار على الجلد، ووضع الملح على الجراح الملتهبة، والصلب على الخازوق وجرجرة الجسد بعربة صحراوية فوق أحجار الصوان المتناثرة، وصندوق الفلقة والعض والنهش بأنياب الكلاب السلوقية الجائعة المسعورة، والكرسي الكهربائي، وغرفة الغاز السام، والحقن بالهواء والوباء، والجلوس على فوهة أكبر زجاجة عرفها مصنع «بوعطني» الاشتراكي للمشروبات، ومعاملتك بعكس ما خلقت له، كلها أساليب وطرائق وسبل ووسائل قد تكون في حوزة من تتغاضى عنهم وتتحاشاهم وتتجاهلهم، لتأمن شر اتباعهم الغلاظ الشداد، القادرين على جلب عشة إطال العمر من جيب سروال «شارون» الداخلي، حسب ما يتشدقون.

سجل بأنني خائن وجبان، ولا تطمئن لأي كان وأخص بالذكر، أغلب مدراء الإدارات، ورؤساء الأقسام، وسائقي الحافلات العامة، ومنتسبي نادي التأييد الأهوج، وأئمة المساجد، والخطباء، والوعاظ، والفقهاء، والبلهاء، وأساتذة الجامعات، ورؤساء تحرير الصحف والمجلات، ومذيعي نشرات الأخبار والوفيات، والكتبة بمقابل، والصحافيين بالبركة، ومسؤولي المؤسسات والقطاعات، فهم ما زالوا منغمسين، بين الوصولية، والتملق، والنفاق، والرغبة، والحلم، والتشبث، والذل، والذعر، والانحلال، والتفسخ، فلا تنسى أياً منهم من الفاتحة.

سجل بأنني خائن وجبان، طرب لممارسات، وسلوكيات، وترهات، ومهاترات المسؤولين، والمتثاقفين، والكتبة بمقابل، والصحافيين بالبركة، والشعراء الغاوين، والاعلاميين الضالين، الذين شكلوا بهلاواناً مولعاً مدلهاً في محبة العابثين والسراق، حتى الاطناب، والاسهاب، والافراط، والمبالغة، والمزايدة، والاجترار، حماية وتغطية لفسادهم المعلوم من جهة، وهلعاً وذعراً من جهة البعض الآخر فيهم من الببغاوات الغبية، وليس عجيباً أن نرى أو نسمع، عن حقائق وشائعات واتهامات بالرشوة، والوساطة، والمحسوبية، والتحايل، والتلاعب، والسرقة، والتزوير، وعلى غير ذلك من انتهاكات وتجاوزات باسم من يتغزلون بها دجلاً.

سجل بأنني، خائن وجبان، وأعلم أن سر وجود أرباب الفساد ورموزه، ومراكز القوى، والكبار وأبنائهم، وأركان حكومة الظل، ومستشاري الظلام، هو تفانيهم في الغناء بالتمجيد والتقديس والعبادة للسادة، وأي سادة هم وأي عبيد أنت أو غيرك، ممن اعتادوا على ذلك إطالة لأعمارهم، واضفاء لحصانة عجيبة تدوس بأقدامها حتى على رجال القضاء المحجوز.

سجل بأنني خائن وجبان، ترتعش أوصاله، وتصطفق أسنانه، لمجرد رؤيته لدورية راجلة أو راكبة أو ما شابه، على الرغم من أنني كالثوب الأبيض المنقى من الدنس.

سجل بأنني خائن وجبان، لا سوابق له، ولا يوجد عليه أي تحفظ، لا مالي، ولا إداري، ولا أخلاقي، كما لم يسرق يوماً، أو يكذب، أو يتطاول، أو يندد أو يعترض، أو يشجب، أو يستنكر، أو يحتج، أو يواجه، أو يتمنى، أو يحلم، أو ينسحب، أو يتصور، أو يتخيل، أو يريد سوى أنه خائن وجبان وبشكل قاطع.

سجل بأنني خائن وجبان، هجر ملذات الدنيا، ليس لعماد الدين، ولا للعلم، ولا للمجون، ولا لأي شيء آخر، لكنه هجرها جميعاً إلى العزلة المجردة التامة.

سجل بأنني خائن وجبان، لم ينتم يوماً لأي تيار ديني، ولا لأي مركز سياسي، ولا لأي نوع منهما، لا القديم ولا الجديد، كما لا يوجد ما سيكون منها مستقبلاً، بل لا يعترف على الاطلاق بها جميعها، وإنما خائن وجبان عاش ويعيش وسيعيش هامشياً إلى أن تصعد الروح إلى بارئها..!!؟؟

سجل بأنني خائن وجبان، يخاف عيش الحياة المرعبة، المنغصة، المقلقة، المختلطة بجبال التحذيرات، وصخور التهديدات، وسهام الوعيد.

سجل بأنني خائن وجبان، لن يترك موطنه رغم الداء والأعداء، ولم يفكر في هجره إلى غرب الشر حيث التسكع في الحانات والملاهي الليلية بصحبة مومس شقراء وزجاجة من النبيذ المعتق، ونهاراً يعتلي منابر الأراجيف، والأكاذيب، والتأويل، والتهريج، والخداع، والسلب، والتشويه، والهزل، ليرتمي في أحضان جنرالات أميركا، بريطانيا، ألمانيا، تحت حجج اللجوء السياسي وغيرها، ليجسد دور التابع والمطيع والراوية الذي يجيد نقل القول عن قائله لمجرد تسمية غير شرعية (معارض ليبي جسور).

سجل بأنني خائن وجبان سيتحمل تشبيهات العجزة، والمسنين، والقصر، والسذج، والدراويش، لقناعتي أنهم سيموتون ولن يفهموا حرفاً واحداً مما أكتب.

سجل بأنني خائن وجبان، لكن احفظ لي بأنني امتثلت لقول الشاعر:

إذا ما طمحت إلى غاية.. ركبت المنى ونسيت الحذر

ونزلت عند رغبة الشاعر القائل:

تركت ماءكم من غير ورد.. ذلك لكثرة الوراد فيه

إذا ما سقط الذباب على إناء.. تركته ونفسي تشتهيه

وتجتنب الأسود ورود ماء.. إن كان الكلاب ولغن فيه.

سجل بأنني خائن وجبان، ولا تفكر في التعليل، أو التحليل، أو الشرح، أو الدراسة، أو التركيز، أو الإعراب، فالعبد لله رغم خليط، ومزيج، الجبروت والذل، والقوة والضعف، والاستكانة والهوان، والجرأة والتخاذل، والإقدام والتراجع، والصراحة والكذب، والمراوغة والتلاعب، يعرف جيداً لماذا اعترف لك، أو بالأحرى لماذا جعلك تسجل في مفكرتك الشخصية بأنه خائن وجبان، رغم التحذيرات، وعلامات الممنوع، والخطوط الحمراء نعم أعرف، وببساطة أقولها لك، إنني قد جبلت، ونشأت وتعودت، وعشت، على السمع والنظر من دون أدنى حركة أو رفض ومواجهة ومكاشفة مني، تقوض رموز الفساد ومراكز القوى وأرباب الاثنين، تاركاً طواعية العصبة المتخلفة المتعصبة، من مجاميع الصعاليك، والسراق، والأقزام، والوصوليين، والثعالب، والذئاب، والضباع، والفيلة، والجرذان، والذباب، والبعوض، والأفاقين، والمنافقين، والحذاق، والتجار، والفجار، ولا أدنى حركة مني، خلخلوا البنيان، حفروا تحته، هدموه كلياً، خربوا كل شيء عاثوا في بلادنا فساداً وافساداً، كل ما في جوف أرضها، أو بين جنبات خزائنها، أو على سطحها، حياً كان أم جماداً، ولا أستثني في ذلك، رفات الراقدين بمقبرة سيدي عبيد».

ما سبق نص لمقتطفات من مقالة مطولة كتبها الصحافي الليبي ضيف الغزالي الشهيبي (32 سنة) في شهر مايو الماضي، وبعث بها من بنغازي إلى موقع «أخبار ليبيا» على شبكة الاتصالات الدولية (الإنترنت). وهو الذي توقف عن الكتابة في الصحف الليبية، عمل منذ عشر سنوات مع اللجان الثورية، ولمدة أربع سنوات في صحيفة «الزحف الأخضر». لكنه ضاق بما رآه، فأعلن مقاطعة الكتابة في الصحف الليبية. وظل محتفظاً بعضويته لرابطة الأدباء والكتاب الليبيين.

مساء يوم 21/5 خرج ضيف الشهيبي مع صديق له إلى أحد شوارع بنغازي، فاستوقفتهما سيارة قال راكبوها انهم من جهاز الأمن، ثم اصطحبوا ضيف معهم واختفوا بسيارتهم في الظلام. لم يعد صاحبنا إلى بيته وانقطعت أخباره لعدة أيام، إلى أن أبلغ شخص في 2/6 مركز شرطة في ضواحي بنغازي بالعثور على جثة مشوهة ومدفونة تحت الرمال. وكان صاحب الجثة هو ضيف الشهيبي، الذي قطعت أصابعه وأطلقت عدة رصاصات على رأسه.

يوم 6/6 نقلت وكالة الصحافة الفرنسية تصريحاً لوزير العدل الليبي علي الحسناوي، أعرب فيه عن أمله في أن تكون معالم الجريمة قد اتضحت خلال 48 ساعة ـ أي بحدود 8/6، وحتى كتابة هذه المقالة 14/6، ما زالت ملابسات قتل ضيف الشهيبي طي الكتمان، ولم يعرف بالضبط من وراء خطفه وقتله، ورغم الغموض الذي لا يزال يحيط بالحادث، إلا أن ثمة شيئاً واحداً مرجحاً وقد أقول محققاً هو أن موقفه وكتاباته وراء ما جرى له، الأمر الذي يجعل العامل السياسي مقدماً على الجنائي في دوافع الجريمة. ولعل المقتطفات التي مررنا بها من مقاله تسلط الضوء على صحة ما أدعيه، حيث استخدم الكاتب الوصف الذي بات يرمى به كل معارض سياسي (خائن وجبان) لكي يوجه نقده للأوضاع القائمة، ويبسط أمام الكافة قبل رحيله حيثيات اغتياله.

الذي لا يقل سوءاً عن فظاعة الجريمة، ان حادث الاغتيال تم تجاهله في العالم العربي، وكأنه شيء عادي، في حين قامت الدنيا ولم تقعد لاغتيال الصحافي اللبناني سمير قصير. حتى قيل أن فريق التحقيق الدولي في مقتل رفيق الحريري سيتحرى ما جرى لقصير لمعرفة الفاعل والمدبر للجريمة. ولست أريد أن أقلل من شأن الاهتمام بمقتل قصير، وإنما فقط أدعو إلى توسيع الدائرة بحيث ينال مقتل ضيف الشهيبي نصيباً من ذلك الاهتمام، على الأقل لكي لا يتم اغتيال الرجل مرتين، مرة بقتله ومرة ثانية بتجاهلنا له.

ترى كم عدد المناضلين الذين تستر الاعلام عن قتلهم وكانوا ضحايا ذلك الاغتيال الثاني؟