هل ضاع الطريق إلى خريطة الطريق

TT

كلما لاح في أفق المتفائلين احتمال تحرك الأمور نحو تسوية القضية الفلسطينية، وفق الأسس المتفق عليها دولياً، والتي تستند إلى قواعد الشرعية والعدالة ـ النسبية ـ، وتستجيب للرغبة في تحقيق السلام والأمن للجميع ـ الضحية والمعتدي ـ، يتلاشى السراب، وتعود اسرائيل إلى عاداتها القديمة في المراوغة والخداع، ذلك لأنها في الحقيقة ـ أياً كان اسم رئيس وزرائها وايا كانت هوية المتولين مختلف مراكز المسؤولية فيها، ومهما كان الحزب أو الائتلاف الحاكم ـ، لا تغير أهدافها حتى إذا ألبستها في بعض الأحيان ثوباً مزيفاً من الاعتدال والتباكي على السلام بل اظهار اللهفة عليه. وعندما تنقشع سحب الخديعة تتضح في كل مرة أن ما تريده اسرائيل هو استمرار السيطرة على أرض فلسطين كلها ـ مباشرة أو بطريقة غير مباشرة ـ والحفاظ على أراض عربية إضافية استولت عليها في حرب عدوانية هزمتنا فيها (بقدر ما هزمنا أنفسنا)، بمساعدة قوى دولية ما زالت تثبت كل يوم ـ من دون حياء ـ انحيازها المطلق. ولعلي أسارع بالقول ان الانسحاب من سيناء ـ بعد حربنا المنتصرة في أكتوبر ودبلوماسيتنا الناجحة فيما تلاها ـ ليس إلا الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فإسرائيل خانها ذكاؤها وتصورت أنها تستطيع اخراج مصر من الصراع وأنه من الممكن الفصل بين الأمن القومي لمصر والأمن القومي العربي. وقد وضح لها أنها خدعت نفسها لأن مصر لم ولن تتخلى يوماً عن التزامها القومي، ليس فقط انطلاقاً من إيمانها بعروبتها وبالصلات العضوية التي تجعل منها قلب المنطقة، ولكن أيضاً من ادراكها أن التاريخ والجغرافيا يؤكدان الارتباط الذي لا ينفصم بين أمن مصر وأمن العالم العربي، رغم فترات القطيعة والخلاف ورغم الأزمات التي تنشب لأسباب نتحمل وأشقاؤنا بعض المسؤولية عنها، ويرجع البعض الآخر إلى الدسائس والمؤامرات والوقيعة ـ وإذا كان شارون عندما ينادي بشعار غزة أولاً يقصد غزة أولاً وأخيراً، فإن من ينادون بمصر أولاً لا يقصدون الفصل بينها وبين أشقائها ومحيطها القومي الطبيعي، ولكنهم يقصدون ـ في ضميرهم ـ أن بناء مصر هو دعم لدورها في الاسهام في بناء عالم عربي متكامل ومتضأمن، وأمن ومستقر ومتفتح وينعم بالرخاء.

وقد كتب إلي قارئ ـ لا شك أنه لا يقرأ لي إلا لماماً ـ يتهمني بأني لا أذكر أخطاءنا، ولو راجع ما كتبت لوجدني أقرب باستمرار إلى محاسبة النفس أولاً، ولكني لا أستطيع بكل أمانة أن أتعامى عمن يستغلون بعض أخطائنا، وينطلقون من كراهية لنا وانحياز لمن على شاكلتهم في كراهيتهم وأطماعهم. ولذلك فإني ألقي الضوء على أخطائنا وأطالب بإصلاحها، من دون أن أتخصص في جلد الذات ولوم النفس باستمرار.

وأعود إلى السياق الأصلي للحديث، وهو متابعة تعرجات سياسات اسرائيل في اتجاه تحقيق أهدافها الخبيثة الثابتة.

ولا أريد العودة إلى أبعد من خريطة الطريق، التي ظلت المجموعة الرباعية لمدة طويلة عاجزة عن اعلانها بسبب موقف أميركا، ثم استطاعت أخيراً أن تصدرها في 30/4/2003 بعد إلحاح. وقد قبلتها السلطة الفلسطينية وبدأت في اتخاذ اجراءات لوضع مرحلتها الأولى موضع التنفيذ، ولم تكتمل بسبب التحفظات التي أوردتها اسرائيل على قبولها للخريطة، والتي تتناقض في جوهرها مع روح أية تسوية، وبسبب المواقف التي اتخذتها أميركا من القيادة الفلسطينية. ومع ذلك فإن ما نفذته السلطة الفلسطينية ـ بمساعدة من مصر ـ كان خطوات مهمة، تؤكد حسن النوايا والرغبة في التحرك في طريق التنفيذ الكامل. أما اسرائيل فإن استعراض ما كان عليها من التزامات ومقارنته بواقع السياسات يكشف عن مصداقية الشكوك في نواياها:

اصدار اعلان واضح بالتزامها بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة.

وقف فوري لعمليات العنف ضد الفلسطينيين في أي مكان.

توقف اسرائيل عن أية اجراءات تهدد الثقة مثل الابعاد، والهجوم على المدنيين ومصادرة أو تدمير البيوت والممتلكات الفلسطينية كأجراء انتقامي أو لتسهيل بناء مبان اسرائيلية، وتدمير المؤسسات الفلسطينية والبنية الأساسية وغير ذلك من الاجراءات التي أشار إليها مشروع Tenet.

اتخاذ اسرائيل اجراءات لتحسين الوضع الانساني.

القيام فوراً بتفكيك المستوطنات التي أقيمت منذ مارس 2001، وتجميد كل نشاط استيطاني بما فيه ما يسمى بالنمو الطبيعي للمستوطنات.

هذا بالنسبة للمرحلة الأولى التي كان محدداً لها أن تمتد حتى مايو 2003، تعقبها مرحلة ثانية من يونية إلى ديسمبر 2003، وتتضمن انعقاد مؤتمر دولي لبدء عملية تؤدي إلى اقامة دولة فلسطينية مستقلة بحدود مؤقتة، (باعتبار أن الحدود النهائية سيتم تحديدها خلال المفاوضات).

والسؤال هو: أين نحن من كل هذا؟

لقد عمدت اسرائيل وأميركا إلى تجميد القيادة الفلسطينية التاريخية بحجج واهية عقاباً على أمور ـ حتى ان صحت ـ فإن اسرائيل ارتكبت أضعافها من دون أن يفكر أحد في عقابها أو حتى توجيه لوم صريح وفعال لها. وما زالت حكومة شارون حتى اليوم تقتل الفلسطينيين، وتقلع زرعهم، وتحتل أراضيهم، وتمنعهم من التنقل، وتشل حياتهم، وتبني مستعمرات جديدة، وتستفز الفلسطينيين الملتزمين بالهدنة لدفعهم إلى خرقها، وتعمل كل ما من شأنه اضعاف وإحراج القيادة الفلسطينية الجديدة، التي بدأت جهداً حقيقياً لإقناع الشعب والمنظمات الفلسطينية بالاستمرار في الالتزام بالتهدئة، على أمل أن يتدخل المجتمع الدولي لردع اسرائيل. وقد قامت مصر بدور إيجابي نشيط لمساعدة السلطة الفلسطينية على بناء مؤسساتها، وتنفيذ التزاماتها في الوقت الذي تبذل جهوداً متواصلة ازاء الأطراف الأخرى حتى تلتزم بما عليها، وبما من شأنه أن يساعد على التوصل إلى التسوية التي هي في مصلحة الجميع، والتي تتفق مع قواعد الشرعية والعدل وتتماشى مع التعهدات الرسمية.

ومع ذلك فإن اسرائيل ما زالت سادرة في غيّها الذي يكشف عن حقيقة نواياها العدوانية، معتمدة على تأييد من أميركا لا يكاد يبدو وكأنه يفتر ازاء تحدي اسرائيل لها، حتى يعود أقوى مما كان نتيجة اقتناعات شخصية تتخفى وراء حجج واهية دينية أو سياسية، ونتيجة ضغوط تتخذ أشكالاً مختلفة منظمات ثبت أنها لا تتفق مع المصالح الأميركية، بل انها تتجسس على أميركا ذاتها من دون وازع من ضمير ـ ان وجد ـ أو حتى عرفان بالجميل.

وإزاء ذلك فإني أرى أنه من واجب المجموعة الرباعية، والتي تتكون ـ للتذكرة ـ من أميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ـ بدلاً من أن تجتمع لإصدار بيانات مللنا تكرارها، أن تعيد قراءة خريطة الطريق، وتقيم ما تم تنفيذه أو ما لم يتم تنفيذه منها، وأن تحدد المسؤول عن عدم التنفيذ وتتخذ ازاءه الاجراءات اللازمة، حتى يمكن اعادة الثقة ـ التي ضعفت ووهنت إلى أقصى حد ـ في امكانية اقامة سلام حقيقي ودائم يقوم على اعادة الأراضي المحتلة في سنة 1967 في سوريا ولبنان وفلسطين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، تعيش جنباً إلى جنب في أمن وسلام مع اسرائيل وفقاً للرؤية التي صدعونا بالحديث عنها من دون أن يتحملوا جهد ومسؤولية وأمانة الدفع لترجمتها إلى واقع.

أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن أي جهود مخلصة ـ وعلى رأسها الجهود المصرية المتواصلة ـ لن تستطيع أن تنقذ الوضع من مزيد من التوتر والدمار مع ما لذلك من تداعيات أتصور أن مراكز البحث المتعددة في أميركا، قادرة على التنبؤ بها من دون عناء كبير في التفكير.

* وزير خارجية مصر السابق