مع حركية العولمة: الدول والديمقراطيات الجديدة

TT

بمناسبة الزيارة الأولى لرئيس الصومال لبلاده، تحدث الصديق حلمي شعراوي عن ظاهرة «دولة المنفى» التي هي شكل جديد من الدول، ظهر في السنوات الأخيرة، يختلف عن نمط الجمهوريات الذي كانت تعلنه حركات التحرر أيام الحقبة الاستعمارية، كما كان شأن الجزائر سابقا وفلسطين حاليا.

فجمهوريات حركات التحرر تقوم على إجماع وطني شامل واعتراف خارجي واسع، وتشكل أطراً مؤسسية للمقاومة الشعبية، أما دول المنفى الجديدة فتقوم عند انهيار وتفكك الكيانات الوطنية من جراء الصراعات والفتن الأهلية، بحيث لا يتعدى وجودها التمثيل الخارجي لبلدان مستقلة لها العضوية في المنظمات الإقليمية والدولية، لكنها عاجزة عن ممارسة سيادتها الفعلية داخل أراضيها لغياب سلطة مركزية.

ومن المثير أن التقارير الصحافية المقبلة من أقاليم الصومال الممزقة، تؤكد أن المعادلة التي أفرزتها الفتنة الأهلية ولدت بذاتها أوضاعا تنظيمية واقتصادية لها نجاعتها وفاعليتها، لعلها في أعين الكثيرين أفضل من الحكم الشمولي المغلق خلال عهود الاستقلال الأولى (أيام الرئيس الأسبق سياد بري). وبالإضافة إلى نموذج «دولة المنفى» أو «الدولة الحقيبة»، نلاحظ انبثاق نماذج جديدة تندرج في السياق ذاته، أي انهيار الكيانات الوطنية في بلدان الجنوب، الذي يعبّر عن مسار مختلف عن مسار انحسار الدولة القومية في العالم الصناعي المتقدم، حتى ولو كان المساران يلتقيان في عنصرين محوريين يتعلق أحدهما بالشكل السياسي للكيان، ويتعلق ثانيهما بعلاقة المجموعة السياسية بالدولة.

فمن النماذج الأخرى «الدولة المنجم» أو «الدولة الشركة»، ويتعلق الأمر بنمط من الكيانات يقوم من حيث ظروف نشأته ومقوماته الاقتصادية، بل وتركيبة سكانه على وجود ثروة منجمية تستغلها شركات أجنبية، تتحكم في الرهانات السياسية والاقتصادية، تشكل الحكومات وتسقطها، كما أن أغلب السكان هم من العمال والموظفين المهاجرين المرتبطين بهذه الشبكة الاقتصادية الخارجية.

فمن المعروف أن العديد من الدول الافريقية نشأت لهذا الغرض، ولا تزال تؤدي الدور نفسه، كما هو حال الكونغو والغابون... كما أن الصراعات العرقية والأهلية في منطقة وسط وجنوب افريقيا الغنية بالمعادن والنفط أطرتها الخلفية نفسها، فأفضت إلى قيام كيانات شبه مستقلة، وإن كانت غير معترف بها دوليا، إلا أنها تعتبر في حقيقة الأمر دولا كاملة المكونات، مزدهرة اقتصاديا ومندمجة في منظومة العولمة الاقتصادية، من خلال ارتباطها الوثيق بالشركات الدولية الكبرى.

فالعصابات المتمردة في السيراليون مثلا تتحكم في أغنى مناطق العالم بالماس، وتدير فضاءً مزدهرا مندمجا في الاقتصاد العالمي، في حين تصنف الدولة المستقلة المعترف بها دوليا (أي دولة السيراليون)، كأفقر دولة في العالم من حيث الدخل الفردي والقومي، كما تعاني من العزلة الإقليمية والدولية.

وإلى جانب «الدولة الحقيبة» و«الدولة المنجم» نلمس نموذجا ثالثا، يمكن أن نطلق عليه دولة «المهاجر». ولا يتعلق الأمر هنا بالدولة التي يتشكل نسيجها السكاني من اكتساح المهاجرين (النموذج السائد في بعض دول الخليج العربي)، وإنما بالدولة التي تقوم حركيتها السياسية والاقتصادية على نشاط وعوائد مهاجريها في الخارج.

فالعديد من بلدان الجنوب التي لا تتوفر على إمكانات اقتصادية حقيقية، يتمثل رأسمالها الفعلي في دينامية نشاط عمالها المهاجرين إلى الدول الصناعية الغربية أو الخليجية البترولية، كما هو شأن بلدان شرق آسيا. بيد أن الجديد في الأمر هو بداية انبثاق دور سياسي محوري وفعال للمهاجرين في الرهانات الداخلية لبلدانهم الأصلية.

فالعديد من البلدان فرضت عليها صناديق التمويل الدولية والقوى الغربية قيادات حاكمة، تمتاز في الغالب بكونها من الموظفين السامين في تلك الهيئات المالية أو من اللاجئين السياسيين السابقين لتلك الدول الكبرى، ومن الجلي أن ولاءها متمحض لتلك الأطراف الخارجية، وعلاقتها ضعيفة ببلدانها الأصلية.

وترتبط هذه التحولات التي تتعلق بشكل الدولة بتغير جوهري طال نمط النظام السياسي، بحيث برزت في العديد من البلدان نماذج جديدة للحكم عصية على التصنيف، لا هي بالدكتاتوريات الشمولية المستبدة ولا هي بالديمقراطيات الحرة.

ففي بعض هذه البلدان، نلمس مؤسسات دستورية فاعلة ومناسبات انتخابية دورية منتظمة، وتناوبا هادئا على السلطة، في مجتمعات تعوق تركيبتها العرقية أو الطائفية أو الدينية نظام الحريات العامة بقيمه الفردية والجماعية، مما يحول هذه البنية المؤسسية الناجعة إلى إطار شكلي لإعادة إنتاج المنظومة الاجتماعية القائمة، التي تكرس ـ وبالتالي تشرع ـ أنماطا موروثة من التفاوت والاستغلال تشكل عوائق موضوعية أمام التحول الديمقراطي الصحيح. وفي بعض الساحات الأخرى، يؤدي انهيار الأنظمة الشمولية إلى كسر بؤر التسلط والقمع، من دون أن تعوضها مؤسسات ديمقراطية بديلة، فتضطلع الأجهزة القمعية السابقة (الأمنية والعسكرية) بدور جديد، يؤمن في آن واحد شكل السلطة المركزي ومصالح القوى الجديدة التي أفرزتها معادلة التحول، فتشكل «ديمقراطية موجهة» تحترم الصيغ الإجرائية للممارسة التعددية في إطار التوازنات المذكورة، ومثال هذا النموذج ما نلمسه في روسيا وبعض بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية سابقا.

وفي ساحات أخرى، يفضي مسار التحول إلى تكثيف الحريات العامة، خصوصا حرية التعبير والتنظيم السياسي، من دون أن يتجسد التحول في شكل ديمقراطي إجرائي. وقديما قيل عن لبنان انه بلد يرتفع فيه سقف الحريات بدون ديمقراطية حقيقية، لأن لعبة التوازنات الطائفية تفرض مسبقا حدودا مقيدة لإرادة الاختيار السياسي. وفي إيران، نلمس ظاهرة مماثلة بخلفية مختلفة: هامش حرية فكرية وإعلامية واسع، وانتخابات نزيهة في الغالب، إلا أن الازدواجية القائمة بين المؤسسات الدستورية غير المنتخبة المستندة للشرعية الدينية (نظام ولاية الفقيه)، والمؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة (التي لا تتمتع بسلطات فعلية جوهرية)، حدت من فاعلية الآلية الديمقراطية.

إن هذه التحولات في شكل الدولة ونظام حكمها التي توقفنا عندها، لئن اختلفت من حيث الخلفية والمنطق الداخلي عن الإشكالات المعقدة التي تطرحها دينامية العولمة على نموذج الدولة القومية في العالم الصناعي المتطور، إلا أنها ترتبط بها في البعدين المحوريين في العقل السياسي الحديث:

* البعد المتعلق بالسيادة: أي بالطبيعة السياسية للدولة بصفتها كيانا مستقلا معترفا به داخل المنظومة الدولية.

* البعد المتعلق بالمشروعية: أي بشرعية نظام الحكم، بصفته تعبيرا حرا عن إرادة ناخب يتمتع بكامل حقوق المواطنة.

ومن الجلي أن حركية العولمة تفرض إعادة طرح الإشكالات العصية المتعلقة ببعدي السيادة والشرعية على مختلف الكيانات السياسية، وإن بوتائر وخلفيات متباينة، كما بينا آنفا.