المغرب : سؤال تعزيز آليات الانتقال الديمقراطي

TT

عندما توصلت قبل أيام بدعوة من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، للمساهمة في لقاء يتناول بالبحث موضوع «السؤال السياسي والمؤسساتي في المغرب»، اعتبرت بحكم سياق الدعوة وموضوعها، أن المقصود بالتجريد في عنوان اللقاء هو قضايا العمل السياسي في الراهن المغربي، وتصورت أنه يمكن أن ينصب التفكير على قضايا التحول السياسي الجارية في بلادنا، وذلك بهدف تشخيص بعض أبعادها وبناء جوانب محددة من إشكالاتها. ومعنى هذا، أنني اخترت الاقتراب من موضوع اللقاء من زاوية في النظر يهمها التفكير في بعض تجليات المشهد السياسي المغربي في علاقاته المعقدة بالفاعلين وبالإشكالات المطروحة منذ حدث أبريل 1998، المتعلق بإعلان حكومة التناوب التوافقي وإلى يومنا هذا.

وتقتضي مواجهة هذا السؤال بناء مواقف نقدية من مجموعة من التصورات السائدة في مجال العمل السياسي في بلادنا، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر التصورات السياسية الموصولة بمنطق التقليد، والتصورات السياسية المرتبطة بمنطق اليوتوبيا، ثم التصورات السياسية الملغومة التي يمكننا أن ندرجها في باب «الذهول عن المقاصد» بلغة ابن خلدون، ونقصد بذلك بعض الممارسات التي اتجهت في الآونة الأخيرة نحو إنجاز عملية تحويل في نوعيات السجال السياسي الدائر في بلادنا، حيث تم إطلاق جملة من المواقف في وقت واحد (مظاهرات، حوارات، مواقف مناهضة للوحدة الترابية.. الخ) بهدف التشكيك والبلبلة، التشكيك في كل ما يجري أمأمنا، ونشر البلبلة بهدف وقف مسلسل التصالح التاريخي، الذي نفترض أنه سيمكننا من عبور قناطر الانتقال بكثير من الحس التاريخي، وكثير من الطموح المعزز لآمالنا في بناء مغرب ديمقراطي، يتطلع الجميع إليه، وتعززه تجارب أربعة عقود من النضال المتواصل من أجل بناء دولة الحق والقانون.

لا ينبغي أن يفهم من سياق التشخيص السابق، اننا أمام مشهد سياسي مغلق أو مضبوط بصورة صارمة، ففي قلب الديناميات السياسية الجارية في المجال السياسي، نقف على أسئلة عديدة وتناقضات لا حصر لها، كما نعثر على خطوات إلى الأمام وأخرى نحو الخلف. ولعلنا نقف بالذات على أفعال تتسم بكل سمات المشهد التاريخي الحي، حيث تولد التناقضات ويتم العمل على تجاوزها بتركيب ما يسمح بترسيخ أساليب تاريخية جديدة في العمل السياسي، وهذه المسألة لا تتعلق بمجال الدولة، بل انها تشمل أيضاً المؤسسات الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني.. ومعنى هذا الإقرار، أننا أمام أحداث ووقائع تاريخية قابلة للفهم والتعقل وإعادة البناء، في أفق مشروع تاريخي جماعي حصل عليه اجماع نسبي، وينبغي على الجميع الحرص على صيانته بمزيد من الحوار والنقد، وبناء ما يسمح بتركيب توافقات جديدة.

لنبدأ بمواجهة منطق التقليد في مجالنا السياسي، وهو المنطق الذي تأخذ به بعض التيارات السياسية مستهدفة إحياء مرجعيات نظرية في العمل السياسي، نفترض أننا كنا بصدد التخلص منها، وذلك من أجل ترسيخ القيم النظرية الوضعية والتاريخية في مقاربة الشأن العام. فكيف تعود بعض التيارات الناشيءة لمنح لغة التقليد العتيقة ما يمكنها من صفة المرجعية، في حقل يسعى لاستيعاب وتأسيس مرجعيته التاريخية بكثير من الاجتهاد والجهد الذاتيين، المعبرين عن خصوصياتنا التاريخية والعاكسين للمكاسب النظرية المتاحة اليوم للبشرية جمعاء؟.

اننا نعتقد أن الانخراط في دعم أفق التحديث السياسي، الذي ندرج في إطاره مبادرة أبريل 1998، يستدعي محاصرة لغة التقليد وشعاراته، وتكون المحاصرة فاعلة وقوية بتعزيزها لروح الحداثة السياسية المسلمة بكفاءة الإنسان في تدبير قضاياه، بلغة التوافق والتعاقد التاريخيين، حيث تنشأ القيم السياسية في إطار منطق النسبية والإرادة والمسؤولية، لتشكل التمثلاث والمواقف، التي ينتجها الفاعلون وهم يواجهون أسئلتهم السياسية، ومصيرهم السياسي، داخل فضاء الصراع التاريخي المفتوح والمتواصل.

إن منطق التقليد يعادي القيم التي ذكرنا، ويعود بفضاء العمل السياسي إلى أزمنة ما قبل تشكل سجل الحداثة في فكرنا المعاصر، وما راكمه في تجربتنا التاريخية المعاصرة من خبرات وتجارب، لهذا نعتبر أن عملية إعادة بناء السؤال السياسي في ثقافتنا السياسية، تستدعي محاصرة اللغات العتيقة التي تنشأ في قلبه وعلى هامشه.

أما التصورات الأخرى التي ربطناها بما أطلقنا عليه منطق اليوتوبيا، فإنها تجسد آلية في التفكير السياسي ترفض التخلي عن المخاتلة في النظر إلى قضايانا السياسية. لقد اتجه العمل السياسي في تجارب اليسار المغربي خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي نحو قيم الحداثة السياسية، وظل حريصاً في الآن نفسه على التشبث بقيم الاشتراكية، وعندما ننظر إلى الإشتراكية من زاوية أنها تستوعب في المستوى النظري مقدمات المشروع الفلسفي الحداثي، وتنتقد في الوقت نفسه المشروع السياسي الليبرالي الذي يتأسس بدوره في أفق فلسفة الحداثة ومقدماتها، نستطيع أن نتقهم مبدأ الجمع، سواء في المستوى السياسي أو في المستوى النظري، إلا أننا نرى أن اغفال شروط التاريخ الفعلية في لحظات التفكير في إشكالات مجتمعنا، وفي الأسئلة الأكثر إلحاحاً في واقعنا، يجعلنا نلح على ضرورة توقيف آليات المخاتلة والمراوغة والإقرار الصريح والمعلن بالطابع الحداثي لمشروع الانتقال الديمقراطي في حاضرنا.

وإذا كانت النخب السياسية المغربية قد خاضت في سياق شروط تاريخية محددة معاركها الهادفة إلى تحقيق المشروع الإشتراكي، فإننا نتصور أنه يحق لها في شروط مغايرة أن تعيد النظر بلغة التاريخ في بعض القيم التي ناضلت من أجلها، خاصة عندما تكون جهودها الفعلية موصولة بأسئلة وقضايا بعيدة كل البعد عن الأفق الاشتراكي.. إنني أتصور أنه ينبغي علينا اليوم أن نتسلح بالشجاعة الكافية، للقول بأننا نراجع بعض قيمنا مرحليا، ولا نتخلى عنها، ولا أحد يمكنه أن يؤاخذ أحداً على مراجعته لموافقة السياسية والنظرية. فنحن نتعلم من التاريخ أن الخطأ الأكبر لا يتمثل في إنكار ما نتبين أهميته بعد فوات الأوان، بل في مواصلة الاعتقاد الخاطئ به رغم إدراكنا لمحدودية هذا الاعتقاد ومحدودية وظيفته في الراهن.

أما الشعارات التي تتطاير في التصورات السياسية الثالثة، من طرف جهات تشعرنا بذهولها عن المقاصد الكبرى لمرحلة من تاريخنا، حيث تتم في كتاباتها كما قلنا آنفاً، كثير من صور التشكيك في الخيارات السياسية الجارية اليوم في مجتمعنا، بهدف نشر البلبلة وافتعال معارك لا علاقة لها بأسئلة مجالنا السياسي الراهن، فإنه يمكننا أن نواجهها سياسياً بمزيد من دعم آليات مشروع الانتقال الديمقراطي، كما يمكننا أن نواجهها نظرياً ببناء الدعائم الفكرية المعززة لنظام الانتقال الجاري في بلادنا.

إننا نتصور أن خصوم التجربة السياسية الجديدة، التي دشنتها حكومة التناوب التوافقي في بلادنا، لن يترددوا في إطلاق مواقف تستعمل لغات مناهضة للغة التاريخ الجارية اليوم في بلادنا، وأفضل صور مقاومة الجيوب والخلايا التي يتجه هؤلاء لصنعها، هو أن يعمل الجميع على مزيد من تعزيز أوراش الإصلاح، ومزيد من الانفتاح على قيم الحوار، لتقوية أفعال الانتقال الجارية، وذلك من أجل التمكن من تصليب عود الانتقال الديمقراطي.. وفي هذا السياق يمكننا أن نتصور أن مشروع تحصين الأفعال التاريخية الجارية، يستدعي العمل في أكثر من واجهة. لكنني أريد أن أكتفي هنا بالتوقف أمام مطلب المساهمة في بناء نقاط ارتكاز نظرية مساعدة على تخطي العقبات القديمة والعوائق الجديدة الحاصلة في مجالنا السياسي. إن بناء نقاط ارتكاز نظرية قوية، في باب دعم مسار التحول السياسي الديمقراطي القائم في بلادنا رغم كل عثراته يقتضي المزيد من الاستماع للمجتمع، ويقتضي في الوقت نفسه بناء تحالفات جديدة، تحالفات تستوعب القوى الديمقراطية والقوى الحية والفاعلة، وحزب الاتحاد الاشتراكي والقوى السياسية والديمقراطية التي تقود التحول اليوم في بلادنا مؤهلة أكثر من غيرها لالتقاط مقتضيات هذا التوجه، والعمل من أجل تحويله إلى معطى تاريخي صانع لمستقبل المغرب السياسي.