الترابي: قراءة في لوحة الشيخ السجين.. والسياسي الحر

TT

اليوم 30 يونيو 2005 يعود الشيخ حسن الترابي الى ساحة الحرية والعمل السياسي في السودان بعد خمسة عشر شهرا قضاها في الاعتقال، وهو ذات اليوم الذي يوافي العام السادس عشر لحكم الانقاذ الوطني، أي التاريخ الذي شرع لعهد ذهب فيه الترابي الى السجن حبيسا وذهب فيه عمر البشير الى القصر رئيسا، وفقا لتعبير الشيخ الترابي نفسه في المؤتمر الصحفي الذي عقده في مقر حزبه ـ آنذاك ـ المؤتمر الوطني، وبعد قرار الرئيس البشير بحل المجلس الوطني التشريعي في 12/12/1999 .

ومهما تكن دلالات التاريخ المشحون بالذكريات والمفارقات فان السودان والشيخ الترابي وحكم الانقاذ يدخلون جميعا عهدا جديدا، مشحونا كذلك بالاحتمالات والتوقعات. فإذ تدخل اتفاقية نيفاشا للسلام حيز التطبيق الفعلي في التاسع من الشهر الجاري، يؤدي فيها الدكتور جون قرنق اليمين الدستورية نائبا اول لرئيس الجمهورية، فان اطراف الصراع والنزاع الممتد عبر تاريخ السودان منذ الاستقلال ستلتقي وجها لوجه في ساحة الخرطوم بعد غياب لعقد ونصف العقد سادت فيه اصوات الحزب الواحد وحكم الفرد، وهي القضية الرئيسية التي خرجت بها المعارضة من السودان ثم انشق بسببها الحزب الحاكم نفسه على نفسه.

إن قضية الحريات العامة وقضايا اللامركزية في الحكم هي محور طرح الشيخ حسن الترابي الذي شرعه داخل حزبه وحركته منذ منتصف التسعينات ولقي معارضة ورفضا من الشريحة القيادية العسكرية والمدنية آنذاك واضطره في العام 1998 الى التلويح بالاستقالة من منصب الأمين العام اذا أقر مجلس شورى الحركة الاسلامية قرار الهيئة القيادية بالنص في الدستور الدائم على حزب واحد هو المؤتمر الوطني، إلا ان مجلس الشورى أقر النص على حرية التوالي والتنظيم بأغلبية كبيرة. وقد فسر الترابي تصميمه على انقاذ الحريات بأنها اصول دينية عطلت اكثر مما ينبغي وان السودان اذا لم تبسط فيه السلطة اتحاديا فان الغرب سيتفجر والشرق سيتفجر، وهو ما اكدته الأحداث الماثلة حتى اليوم.

اما تفاعلات الاحداث وتطورات اليوم على جبهة دارفور والمعارك التي اندلعت قبل بضعة ايام في جبهة الشرق، والانتقادات الحادة التي وجهها الشيخ الترابي لوثيقة الدستور الانتقالي ـ الذي سيقر هذا الاسبوع من قبل المجلس الوطني ـ كلها تجعل البرنامج السياسي العام الذي تأسس عليه حزب المؤتمر الشعبي ماضيا وموجها لنشاط الحزب ونشاط الشيخ الترابي بوصفه امينا عاما له في الفترة المقبلة.

فما تزال الساحة السودانية ـ قبل اسبوعين من بداية الفترة الانتقالية ـ تشهد ضغوطا متزايدة من رقابة جهاز الأمن على الصحف وما تزال الحريات العامة منقوصة وما تزال عقلية احكام السيطرة على مقاليد الأمور كافة من مقاعد اتحاد طلاب في جامعة واحدة الى السيطرة على مقاعد مجلس الوزراء هي السائدة في الأوساط الانقاذية الحاكمة، فقد شهدت جامعة امدرمان الأهلية احداثا شديدة العنف من قبل موالين للحزب الحاكم حتى لا يخسروا مقاعد الاتحاد، وهو حدث صغير اذا ما قورن بتعثر مفاوضات القاهرة بسبب الخلاف على نسبة مشاركة التجمع الوطني الديمقراطي في السلطة الانتقالية، او جمود مفاوضات ابوجا بسبب خلاف شديد على اعلان المبادئ الذي سينقل مشكلة دارفور من الملف الانساني ووقف اطلاق النار الى الملف السياسي وهو ما يتعنت ازاءه المفاوض الحكومي، لأن أي نصيب يقسم لدارفور من السلطة سيخل بأغلبية الـ52% التي يعض عليها الحزب الحاكم بالنواجذ.

أمام الشيخ حسن الترابي اذاً قضايا تأكيد الحريات العامة وقضايا الحكم الاتحادي الحقيقي، وهي اجندة تستوجب تعبئة ساحة حزبه اولا عبر استئناف حملة البناء القاعدي أي مواصلة مؤتمرات الحزب القاعدية والولائية واكمال اجهزته وفق مناهج الشورى والانتخاب التي اكد عليها نظامه الأساسي، وثانيا ترسيخ التحالفات الجديدة للمؤتمر الشعبي، لا سيما بعد قيام ما يعرف بالتحالف الوطني الذي يضم اضافة الى حزب المؤتمر الشعبي وحزب الأمة اثني عشر حزبا آخر ومنظمة مدنية، اضافة الى جملة من العلاقات والتفاهمات امتدت منذ قيام المؤتمر الشعبي في يونيو 2000 الى حين لقاء الأمين العام للحزب الشيوعي الأستاذ محمد ابراهيم نقد قبل اسابيع.

تبقى هنالك ساحة شديدة الأهمية في نشاط الشيخ حسن الترابي وهي الساحة الاسلامية العالمية السياسية والفكرية التي يتوجه الترابي الى تركيز العمل فيها نحو ما يشبه التفرغ التام لها خاصة فيما يتعلق بحوار الحضارات والعلاقة بين الاسلام والغرب والاسلام والأديان الأخرى، بما يملك من مؤهلات خاصة لا تكاد تتوفر كثيرا لعلماء الاسلام ومفكريه اليوم.

إلا انه مهما تكن شدة التصريحات والمواقف التي يعبر عنها الشيخ الترابي فانه يظل مفكرا استراتيجيا، لا تصرفه واردات الاحداث وتقلباتها عن الغايات والأهداف الكبرى وهذه الميزة بالذات هي ما تتطلع اليها الجموع الاسلامية عامة والسودانية خاصة في خروج الترابي من المعتقل الذي اكمل فيه اليوم عشر عمره الممتد الى السبعين.

* ناشط بحزب المؤتمر الشعبي السوداني