حدث في القاهرة.. كونداليزا رايس وسطية

TT

حدثنا اليونان الاقدمون أن صولون الحكيم، بعد أن اعتزل الحكم في أثينا، جاب الأقطار يتفلسف، والمؤكد أن الرجل لم يجب الأقطار ماشيا على قدميه في شيخوخته، وإنما راكبا حمارا أو بغلة أو حصانا، مما جعل الضحك واجب الوجود بين يدي هذا المشهد.

لا اعلم لماذا تراءى لي هذا المنظر في الجامعة الأمريكية لدى لقاء وزيرة الخارجية الأمريكية رايس، وما الرابط بينه وبين فلسفة صولون؟ ربما لأنه كانت لليونان حكايات غريبة وكثيرة من هذا النوع، مثل حكاية ديوجين الذي كان يحمل مصباحا في وضح النهار ليبحث عن الحقيقة، وبنفس القدر خيل إلى الناظر أن السيدة رايس جاءت بدورها لتضيء للديمقراطية طريقا ولتعبد للحرية مسارا في ارض مصر المحروسة وفي وضح النهار. ومهما يكن من أمر فان حديث الجامعة الأمريكية في القاهرة، يجب ألا يمر من دون التوقف أمام عدة مراحل في حديثها، أشبه ما تكون بمراحل درب الآلام في دروب القدس العتيقة، وما أكثر تلك المراحل في مسيرة الشعوب العربية مع أمريكا.

المرحلة الأولى تمثلت في ثوب المتنبئين الذي ارتدته رايس، وفي حديثها الذي جاء اقرب إلى الرؤى التوراتية، ولسان حالها أن واشنطن أرسلتني لأبشر المواطنين في الأرض ولأضمد جراح المعارضين وأنادي للمعتقلين بالعتق والمسجونين بالحرية، ولأعلن أن سنة الديمقراطية قادمة، وان الإصلاح آت لا ريب فيه وان يوم الحرية هو قريب.

المرحلة الثانية نرى فيها رايس غير المعهودة، التي لطالما تشدقت بضرورة قيام بلادها بفرض نموذجها الديمقراطي، من منطلق أن أهل الشرق الأوسط لا يعقلون، لذا فلا بد من اعمال العقل والنقل للنموذج الأمريكي، لكن هذه المرة تحدثت الوزيرة عن الإصلاح الناجح الذي ينبع من الداخل، وان الشعوب تختار الديمقراطية طواعية، وهنا يحق التساؤل أي الهام هذا الذي قادها إلى هذه الوسطية والاعتدال بعد الغلو والتطرف السابقين؟

المرحلة الثالثة، وفيها رايس تمضي في طروحاتها الفلسفية، حول الطبيعة الشاملة للديمقراطية، التي يمكن أن تنزع الخوف من الاختلاف والتنوع، ناسية أو متناسية إن مصطلح الشامل أو المطلق هو في حد ذاته طرح مناقض للديمقراطية، التي تقوم على النسبية، من خلال رؤى متعددة ومتنوعة ومختلفة، وكأني برايس تحاول جاهدة إلباس الديمقراطية ثوب الكمال البهي، رغم أن السياسي الأشهر ونستون تشرشل حفيد الديمقراطية الإنجليزية العريقة، يرى النظام الديمقراطي نظاما سيئا جدا، بمعنى انه ليس مطلقا في شموليته، حتى ان كان أفضل الأنظمة المعروضة علينا حتى الساعة، وهو ما نتفق معه فيه.

المرحلة الرابعة، ويمكن أن نطلق عليها مرحلة كرسي الاعتراف، ففيها تقر وتعترف بذنوب بلادها عبر الستين سنة الماضية، في دعم نظم ديكتاتورية ظالمة، طالما أنها كانت تقوم على خدمة مصالح بلادها، ولم تقترب شرورها من أسوارها العالية. أما الذي لم تقله رايس فهو كم نظما ديمقراطية اختارتها الشعوب فأسقطتها واشنطن وحاكت ضدها المؤامرات، وتكفلت جهتها بتدبير الانقلابات؟ ذلك لأنها رأت في وجودها تعارضا مع أهداف الإمبراطورية القادمة من بعيد.

نقول إن البراجماتية الأمريكية، حسب ويليام جيمس، أبو الفكر الأمريكي الحديث، كانت حاضرة في خطاب الجامعة الأمريكية، فوسطية رايس ولهجتها المعتدلة، تفهم على ضوء تحويل النظر بعيدا عن الأشياء الأولية، مثل المبادئ والنواميس والحتميات المسلم بها، إلى الأشياء النهائية كالثمرات والنتائج والآثار والوقائع والحقائق.

ماذا تعني تلك العبارة؟

تعني انه إذا كان الحديث قد اخذ منحى مغايرا عن الديمقراطية الحتمية والفورية والمطلقة بشموليتها، فان وراء ذلك ما هو حقيقي بالنسبة لأمريكا، والحقيقي عندها هو النافع في التفكير، والنافع هنا هو نظر الولايات المتحدة إلى أزماتها الحالية، وحاجتها إلى أصحاب النفوذ المادي والمعنوي في تلك المنطقة من رؤساء وملوك. فمن المستنقع العراقي الذي يدميه صباح مساء كل يوم إلى مسؤوليتها شبه الكاملة عن تأمين انسحاب سريع وآمن ونظيف للقوات الإسرائيلية من غزة، مرورا بأزمتها الاقتصادية الطاحنة، حيث يتجاوز سعر برميل النفط ستين دولارا، وصولا إلى الحديث عن مستندات «داوننج ستريت»، التي يمكن أن تهدد بوش في ما تبقى له من ولاية ثانية، وحديث التحقيق معه مفتوح على مصراعيه، هذه وغيرها كانت أمام ناظري رايس التي لجأت إلى سياسة الإمساك بالعصا من المنتصف، لحاجتها الماسة إلى عون القائمين على شؤون المنطقة ماديا ومعنويا، وان لم يكن الأمر بشكل مطلق.

ويبقى القول هل وجدت كلمات مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة طريقها إلى عقل رايس؟

تقول أولبرايت على صفحات «الواشنطن بوست» الأمريكية، إن إدارة بوش على حق في دعمها للتغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط العربي، لكن ما هي أفضل وسيلة لمعالجة هذه العملية الحساسة؟ وتجيب إذا ضغطنا أكثر من اللازم نزيد من التصور من أننا نحاول فرض أرادتنا، وإذا لم نضغط بالدرجة الكافية فقد يؤكد ذلك الرأي القائل إن أمريكا تدعم الحرية لكل شخص فيما عدا العرب، ومن اجل النجاح في هذا المسعى يجب أن نوازن بين الالتزام القوي للممارسات الديمقراطية، وفهم تعقيدات العالم العربي.

وأخيرا فالشاهد أن القارئ لأشعار صولون قبل توليه الحكم، يدرك كم كان اختلافها عميقا عن نظيرتها بعد توليه الحكم، فمن قبل كان نصير الفقراء ضد الارستقراط، وبعد توليه السلطة كان يندد دائما بشكوى الشعب من نفس إصلاحاته، لقد آثر صولون أن يحمي الأغنياء وكان يمن على الفقراء بأنه حررهم من العبودية، لكن اليونانيين رأوا في تحريرهم هذا إذلالا، وفي حريتهم على هذا النحو عبودية، فكان ان رفضوه ولفظوه فاعتزل عنهم ليمض إلى العالم متفلسفا... ترى إلى أي مدى يمكن عقد المقارنات؟

* كاتب مصري