على هامش إطلاق سراح الترابي: دواعي التجديد ... في سودان جديد

TT

بدأت تتشكل ملامح العودة الى الحياة الديمقراطية في السودان خلال أقل من شهرين بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا بين السلطة الحاكمة في الخرطوم والحركة الشعبية في الجنوب، متمثلة في توقيع اتفاقية القاهرة مع قيادة التجمع الديمقراطي خارج البلاد، وإكمال مسودة دستور الفترة الانتقالية لحكم السودان، وأخيرا ـ وليس آخرا ـ إطلاق سراح الدكتور حسن الترابي زعيم ومنظر الحركة الاسلامية في السودان منذ الستينات، وذلك في توجّه صريح ومعلن من قبل الرئيس عمر البشير لرفع حالة الطوارئ في السابع من شهر يوليو المقبل، إيذاناً ببدء عملية التحول الديمقراطي التي تتعطش لها قلوب السودانيين.

وحقّ لأهل السودان أن يفرحوا لانحسار صوت الحرب وارتفاع نداء السلام، رغم أن الأخير لا يزال وليدا رضيعا غضّا، إذ ما فتئت طبول الحرب تدق داويةً في ولاية دارفور وفي شرق البلاد.

وطالما أن قضية «الدين» قد ظلت هي محور الحرب لأكثر من ستة عشر سنة خلت، وكانت هي العقبة أمام السلام في كافة الجهود السابقة التي باءت بالفشل، فإن الحركة الاسلامية في السودان مطالبة بتقويم تلك الحقبة الماضية من عمر الوطن بـ«عُجرها وبُجرهها»، ليس فقط بدافع التوبة إلى الله من أخطاء فادحة في حق الوطن قد تلبست بلبوس إعلاء «كلمة الله»، وانما لتصحيح المسير في المرحلة القادمة بنور وهدى من هذا الدين الذي أنزله الله رحمة للعالمين حتى لا تتكرر تلك التجارب المريرة ، ولحسن الترابي هنا دور لا تخطئه العين. فقد تختلف الرؤى في ما بين المنضوين تحت لواء الحركة الإسلامية بمنظور المؤتمر الوطني الحاكم، وما يميل اليه المؤتمر الشعبي وفق منظور مؤسسه ورئيسه الدكتور حسن الترابي، على ما كابده من محنٍ أظهرت له مدى الارتباط العضوي بين مفهومي «الحرية» و«التدين». لكن الحقيقة الغائبة والتي نأمل أن يعترف بها أكثر النشطاء في الحركات الاسلامية المعاصرة ، هي أن هذا الدين القيم لا يصح أن يكون محورا للاقتتال من أجل السلطة !

أما بالنسبة لأهل السودان، فلا يحتاج تجديد معنى «الدين» في نفوسهم وقلوبهم إلى «مجدد» موعود، ولا مهدي منتظر، ولا بالترويج الى بدعة في الدين تصادم مصادره الموثوقة، بل بالرجوع به إلى أصوله والكشف عن بدع منكرة ماجت بها فترة الحرب حتى أفسدت على كثير من الناس دينهم ودنياهم، وأثقلت القلوب بمشاعر الكُره والبغضاء في أمور لا تمتّ الى دين الله بصلة. ولأهل السودان خصوصا، لا يحتاج تجديد دينهم الى أكثر من إحياء روح الصدق والبر التي عرفوا بها منذ مئات السنين. ولا غرو أننا نجد في «شذرات الذهب»، للعماد الحنبلي، الذي هو من ثِقاة مؤرخي العرب، عرضا تاريخيا لدروس وعبر في قيم الصدق بين الراعي والرعيّة، تلقّاها آخر ملوك بني أمية في حوار دار بينه وبين أحد ملوك النوبة في السودان، عندما لجأ ذلك الخليفة الى السودان بعد سقوط الخلافة الأموية. هذه لا تعدو أن تكون إحدى حلقات التاريخ التي تشهد بالفضل لأهل السودان منذ القدم. وإذا صح ما أثبته البروفسير عبد الله الطيب (رحمه الله) أن النجاشي ملك الحبشة، الذي شهد له النبي بالعدل، ومضيف الهجرة الأولى للمسلمين، والذي جمع النبي له أصحابه ليصلي عليه بعد وفاته، إذا صح أنه كان أحد ملوك السودان بحسب موقعه الجغرافي الحالي، فهذا شأن عظيم يستحق وقفة لا يمكن استيفاء دلالاتها في هذا المقال القصير.

ومهما كانت الحال، فإن حلم السودان الجديد يتمثل في إحياء خلق البر والصدق وحب الخير الذي عرف به أهل السودان منذ القدم، ولأجل ذلك، ينبغي أن تتعافى قلوب المؤمنين الصادقين الطيبين من حمّى الاستقطاب السياسي الذي تلبس لهم بلبوس الدين حينا من الدهر. وعندئذ فقط ، يصبح العمل من أجل السلام والمشاركة السياسية الحرة أصلاً معتبرا في الدين وليس خصما عليه كما قد يتوهّم الكثيرون من المهتمين بشأن السلام في السودان وما جدّ عليه من تحول نحو الحياة الديمقراطية.

وما نودّ التأكيد عليه هنا، ويتعدى ذلك مجرد حدث إطلاق سراح الترابي ، أن السلام لا يختلف عن الحرب من حيث حاجة كل منهما الى التعبئة وحشد القوى وإعداد عدة كافية لخوض غِماره، فالحرب لها غمارها والسلام له غماره. لذلك كان داعي الجهاد في الاسلام من حيث حشد القوى وإعداد العدة أقرب الى إقرار السلام منه الى إذكاء نار الحرب. لذا، فإن ترسيخ هذا الفهم للدين بكل أبعاده هو الأولوية القصوى لهذه المرحلة الحساسة، في حياة الأمة الإسلامية عموما والسودانيين خصوصا، خلافاً لما هو شائع عند مسعري الحروب بدعوى «إعلاء كلمة الله» ، وهم في واقع الأمر يسعون الى إعلاء كلماتهم وأقدارهم الدنيوية في الأرض، إن لم نقل إشباع نزوات التجبّر والتسلّط على البسطاء. ومن المعلوم أن روح الفداء ومواجهة الموت بشجاعة نادرة لأجل الوصول الى غاية معينة ليست في حد ذاتها دليلا كافيا على صدق التوجه الى الله، رغم أنها تنال إعجاب الكثير من الناس. فهذا السلوك موجود عند البشر بمختلف مشاربهم. نجده في الديانات الوثنية، مثل الشونتية اليابانية، كما نجده في مغامرات القراصنة وتجار المخدرات وغيرهم، فضلا عن كونه سلوكا جاهليا معروفا. فقد ذكر ابن اسحق في سيرته المعروفة بـ«سيرة ابن هشام» قصة ذلك المقاتل الجاهلي الجسور عندما حال جيش النبي (صلى الله عليه وسلم) في واقعة بدر الكبرى في ما بينهم وبين الماء، فأقسم ذلك المقاتل أن يبلغ ماء بدر مهما كلفه ذلك، فشق طريقه في بسالة نادرة بين وابل من السهام المنهالة عليه من كافة الجهات، وهو لا يزال زاحفا على صدره، متضرجا في دمائه، لا يلوي على شي، حتى بلغ حافة البئر ليمسك بها فيلفظ لديها أنفاسه الأخيرة، متمتما بشيء من نشوة النصر! فهذا مسلك نموذجي لمفهوم «حمية الجاهلية» التي ذكرها القرآن.

ولا شك في أن الجود بالروح أسمى غاية الجود، فهو سلوك نادر لا يقبل عليه إلا الخلّص المتفانون في خدمة مبادئ تملّكت حواسهم ومشاعرهم. وبالنسبة للمؤمنين الخلّص ليس هناك أولى من خدمة رسالة التوحيد التي بُعث بها رسول الله الى الناس كافة، ولقد تفانى الصحابة في الذود عن النبي، وفدوه بكل غال ومرتخص، ايمانا منهم بأن هذا الدين قد أحاط بالحق كله والخير كله. ولكن عندما لا تستقيم دعوى الفداء مع معيار الحق والخير، تصبح حمقا وتهورا مثل «حميّة الجاهلية» تماماً. فذاك هو الذي اعترض عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ردهم على قائد سرية طلب منهم أن يعبروا نارا كان قد أوقدها لهم في إحدى المعسكرات، كي يتدربوا على روح الفداء وخوض الأهوال في الحروب. وحاجّهم قائد السرية في ذلك (وهو صحابي مثلهم) بحديث يعرفونه عن رسول الله: «من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني». لم يعترض الصحابة على رواية هذا الحديث لأنه صحيح يقينا بالنسبة لهم، وانما اعترضوا بالنظر الى فقهه ومقصده، قائلين: كيف نعبر النار وقد آمنّا بالنبي لكي ننجو من عذاب النار !! وعندما عادت السرية الى المدينة وعرض الأمر على النبي لم يوبخ أصحابه لعدم امتثالهم لنص الحديث أو لعصيان أميرهم، بل شدّد على تاييده لهم، محذرا بأنهم لو أطاعوه للبثوا في تلك النار الى يوم القيامة، وأردف بالحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». والشاهد في هذا الحديث أن أولئك الصحابة لم يهتدوا إلى طاعة الله ورسوله من خلال الامتثال لنص شرعي في الأمر الذي عرض لهم، وإنما بتوظيف عقولهم وحسن إدراكهم لمقاصد الدين. والأبلغ من ذلك، أنهم كانوا في ظاهر الأمر مخالفين للنص الشرعي الصحيح الذي حاجّهم به أميرهم، ولا ندري ما لجأ اليه من أساليب أخرى لإثارة حماسهم وحثهم على طاعته!

أليس في هذه القصة دليل كاف على أن أرواح المؤمنين عزيزة وغالية، وأن استرخاصها لكل من يطلبها خاضعة ذليلة بدعوى الجهاد عمل آثم ؟ أليس فيه عبرة بأن الحرص على نيل الشهادة لا يتأتى بالخضوع لإمرة من يتصدون لفتاوى القتال ويلهبون الحماس في معارك لا تمتّ لدين الله بصلة؟ أليس فيه دليل كاف على أن التعقل في فهم النص هو سبيل التقرب الى الله، وأن تغييب العقل يجلب سخط الله، وإن كان مشفوعا في ظاهره بنص شرعي؟ نعم، كل ذلك يتسق مع حقيقة أن العقل هو مناط التكليف في الشرع، وليس غريبا أن يكون دعاء أهل النار: «... لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير..» (الملك، 10).

إن ما نحتاج الى إحيائه في قلوبنا وتنشئة أبائنا عليه في السودان وفي كل أنحاء العالم الإسلامي هو أن هذا الدين خير كله، لنا ولغيرنا، وليس فيه ما ينافي الفكر السديد والعرف السليم. ولا خلاف في أن العقل هو مناط المسؤولية الفردية في الشرع وأن الدين الحق رهين بحياة العقل والفكر، التي بطبعها تضمحل في أجواء الحروب والاضطراب، بينما تنمو وتزدهر في أجواء السلم والاستقرار، فليشمر إذن أهل السودان مع هذه الانفراجة الجديدة في أفق تعاطيهم لقضايا الوطن وليلتفوا على إجماع حول ما يجب أن يكون عليه التدين ، وهنا تتسع معارك الجهد لكل الفعاليات متى ما قنع كثيرون بعدم مصادرة الآخر أو العودة لسياسات الإقصاء الكريهة .

* أكاديمي سوداني مقيم في بريطانيا