لندن: يوم غابت الجنة وأطل الجحيم

TT

كان من المفترض أن أواصل هذا الأسبوع الكتابة عن الموضوع السوري، لكن ما ارتكبه الإرهابيون يوم 7/7 الجاري بحق هذه المدينة الرائعة لندن، وبحق هذا الشعب المنفتح، والحليم، والعادل دفعني الى متابعة موضوع من ينتهك الحقوق الإنسانية، لأجل غايات شيطانية. كان الأسبوع الماضي عجيباً بحق، فيوم الأربعاء غرق اللندنيون ونحن معهم في فرح طاغ، عندما فازت لندن بشرف استقبال الألعاب الأولمبية لدورة 2012، أذكر أنني قلت لإحدى صديقاتي، كم إن الله يحبنا، ان منحنا نعمة الإقامة والعيش في هذه المدينة التي تقدّر حتى معنى مرور اللحظة الواحدة في تاريخها، والتي جعلتنا نعرف كيف نستمتع بالفرح الحقيقي، ونتمتع بالحرية، ونعرف معنى احترام الرأي الآخر، وتقدير الإنسان بغض النظر عن لونه، وجنسه او أصله وعلى الأخص دينه. وأعطتنا ما لم يعطنا إياه وطننا الأصلي. أما يوم الخميس فكان كما ذكر أحد الناجين من تفجيرات احد قطارات الأنفاق: «يوم غابت الجنة وأطل الجحيم». هكذا شاء أولئك الإرهابيون ممن حرمهم الله نعمة الفرح، ونعمة رؤية الجمال، وأغرقهم في جحيم الحسد من كل نجاح وتقدم وتطلع الى المستقبل. أكبر غضب نزل على هؤلاء انهم يخافون الشمس ويلهثون وراء الظلام. لقد بحثوا عن الأنفاق المعتمة ليضربوا ضربتهم الجبانة، ونسوا ان لندن كانت مسرحاً لمليون متظاهر ساروا رافضين الحرب على العراق، لأن هناك من يبرر الإرهاب بما يجري في العراق او في أفغانستان او في فلسطين، وكلها تبريرات متواطئة ليس أكثر. إذ ماذا نسمي واضع متفجرات لقتل الناس الأبرياء، غير قاتل؟

في وسط هذا الغضب الذي انتابنا، نحن الذين منحتنا لندن ما منحته لأبنائها وربما أكثر، تقذفنا منظمة القاعدة «الأوروبية»، وموقع السيد أبو حفص، ببيانات عن «غزوة لندن»، وتحكي البيانات كلمات هلوسة ما بعدها هلوسة عن تنفيذ «مشيئة الله». وفي يوم واحد، هو يوم الاثنين الماضي، ولأن شر البلية ما يضحك، تبدأ محاكمة المغربي محمد بويري قاتل المخرج الهولندي تيو فان غوغ، الذي حاول الهرب بعد عملية القتل مطلقاً النار على الشرطة التي نجحت في اعتقاله. بويري دخل قاعة المحكمة حاملاً كتاب القرآن الكريم، وتمتم بكلمات غير مفهومة ثم أبلغ القاضي، أنه أي بويري، «أداة لله»!!! في ذلك اليوم بالذات وفي صيحفتنا «الشرق الأوسط» «أتحفتنا» الوزيرة السورية بثينة شعبان، بما لا يقبله منطق او واقع. بدأت مقالها بأن «التظاهرات التي عبّرت عن نفسها بطرق فكرية وموسيقية... ضد قمة الثماني وحول القارة الأفريقية»، هذا ليس صحيحاً، لأن حفلات الروك كانت لتشجيع زعماء الدول الصناعية على الإغداق على أفريقيا أكثر وإلغاء ديونها. ثم تقول الوزيرة، إن زعماء القمة، «بعد أن تباحثوا في إعادة السيطرة على أرض الأنبياء في الشرق الأوسط واستحضار قيم العولمة الغربية التي لم يفطن لها الرسل سابقاً، ليعلموا العرب بها، رغم أنهم هم الذين اختارهم الباري لهداية البشرية بالأبجدية والحضارة والدين والتعايش»! الوزيرة، التي لم تستنكر العمل الإرهابي الذي وقع في لندن أثناء انعقاد القمة، والذي تدور الشكوك على أن وراءه السوري مصطفى ست مريم نصار، وهو متهم أيضاً بأنه ضالع في تفجيرات مدريد التي أودت بحياة حوالي 200 إنسان بريء، ربما هذه محاولاته لهداية البشرية، اشتكت الوزيرة من «الغرب المتحّضر» الذي يفصل بين الشعوب العربية وبالذات بين الشعبين اللبناني والسوري لمنع التجارة والتبادل بينهما، متجاهلة تماماً أن بلادها ومنذ أكثر من أسبوع تغلق الحدود بوجه شاحنات البضائع اللبنانية المتجهة الى الأردن، والعراق وتركيا، وتريد بذلك معاقبة لبنان والتحكم به وبشعبه. ثم وهنا بيت القصيد، تقول الوزيرة السورية حرفياً «هذه المنطقة التي اختارها الله عز وجل، وليس غيرها من كل بقاع العالم، ليرسل من أبنائها من يفتح بوابات المحبة والتعايش بين البشر جميعاً، فالله تعالى اختار بيت لحم والقدس ومكة، وليس باريس ونيويورك، لتكون كعبة العالم، ليتعلموا قيم السلام والحرية، واختار من العرب إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرسل والأنبياء!» الوزيرة التي كتبت قبل أسبوعين ان الشعب السوري يعيش في حالة من الرفاهية تحسده عليها الشعوب التي يدعمها الغرب! نريدها فقط أن تقرأ البيانات التي تحملت مسؤولية العمليات الإرهابية، إن كانت وقعت في لندن، او مدريد، او الدار البيضاء، او الرياض، او الخبر، او سيناء، كلها تحمل تواقيع القادمين ليعلموا البشرية الحضارة، ولا ننسى قتل رئيس البعثة الدبلوماسية المصرية إيهاب الشريف، الذي تبجح ابو مصعب الزرقاوي بإعدامه..

هنا، وإذا أردنا أن نتحدث عن ناقلي الحضارة فينطبق القول على القتيل، فهو خريج جامعة السوربون كما انه كاتب رحلات، ويخبرني عن براعة الشريف وثقافته ودراسته للدول وعن خسارة مصر والعراق والدول العربية به، سفير مصر السابق في لندن والمتخصص في العلوم النووية الدكتور محمد شاكر، ويقول إن الكتاب الذي كتبه إيهاب الشريف عن الهند من أمتع الكتب، كذلك الامر عن كتابه عن السويد، كما ان الشريف كتب كتاباً لم ينشر بعد ويدخل في خانة أدب الرحلات عن فلسطين وإسرائيل، ولم يحدث أن أخبرني احد عن متعته وهو يقرأ للزرقاوي او زميله في الإرهاب، السوري مصطفى نصار.

كان الشعب البريطاني من أشد المعارضين للحرب على العراق، وتسمح الحضارة التي يتمتع بها سياسيوه ان يناقشوا اين أخطأوا واين أصابوا، هذا الشعب نفسه هو الذي أعاد انتخاب توني بلير للمرة الثالثة، وبلير نفسه لم يقصّر في محاولات إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وعندما تخوفت حتى الدول العربية من «شبهة» أنها على اتصال مع حركة حماس، كان مبعوثه أليستر كروك يتفاوض معها. والتهديد القاعدي لبريطانيا جاء منذ عمليات11سبتمبر، وقال لي مرة سياسي باكستاني، إنه لولا العرب وأسامة بن لادن ما كان حل في أفغانستان ما حل، وأن أكبر خطأ ارتكبه الطالبان أنهم وثقوا بالعرب، فهم قبل ذلك كانوا بدأوا مفاوضات مع الخارجية الأميركية حول انابيب نفط وغاز تعبر من بلادهم. منذ عام2001 والأجهزة الأمنية البريطانية تعمل كما قال أحدهم «كحارس مرمى، ونجحت في صد كل الضربات، لكن نجحت اليوم ضربة واحدة في اختراقنا، وهذه كافية»!، بمعنى احتمال أن تليها عمليات إرهابية أخرى، لأن الفاعلين اكتشفوا أن كل تهديدات زعيمهم للندن، خصوصاً بعد عرضه «الهدنة» عليها، لم تنفع فحافظت على مجتمعها الليبرالي، وحماية تنوع الثقافات فيها، فظنوا أن في استطاعتهم تحويلها بالفعل الى «لندنستان»، غير عابئين بالجالية المسلمة التي تعيش في بريطانيا، ولثقتهم أن البريطانيين يعتبرون هذه الجالية بالفعل جزءا من الفسيفساء العالمية التي ما من مدينة في العالم قادرة على احتضانها مثل لندن والبريطانيين.

من جهة أخرى برر البعض، ان هذه الكراهية لبريطانيا لها جذورها التاريخية، إذ يُنظر إليها على أنها المسؤولة عن انهيار الامبراطورية العثمانية، ويلفت هؤلاء إلى أن بن لادن في احد بياناته أتى على ذكر الأندلس، وبالتالي فإن هناك رابطاً ما بين تفجيرات مدريد ولندن، ولها «أهداف استراتيجية، وهي تصحيح الأخطاء التي ارتكبت بحق الأمة، وإعادة الخلافة الإسلامية!». لنتصور فقط من سيحكم هذه الخلافة.! المهم أن لا يدفع أبرياء مسلمون مقيمون في أوروبا ثمن إجرام هؤلاء المفلسين، لأن توجهات الأجهزة الأمنية البريطانية في الفترة المقبلة ستكون موضوع نقاش أوروبي واسع، حول هجرة المسلمين وخطرها الأمني والثقافي على الشعوب الأوروبية.