الهاجس الملكي: حكاية شعب مصر

TT

وضع الأستاذ هيكل مؤلفات كثيرة، كشاهد وشريك ومؤرخ. وليس في كل هذه المجلدات كلمة واحدة عن الأنظمة العسكرية في العالم العربي. والذي هزم في مواجهة إسرائيل «هم الجيوش والعروش» وليست «الجيوش والثورات». والكتاب الوحيد الذي لم يضعه هيكل بعد، وأتمنى بكل قلبي وكل ضميري أن يؤلفه هو تاريخ الهزيمة في مصر. أن يقول للناس إن الشعب المصري هو البطل العظيم الذي ربح حرب السويس. وإنه عندما هزم عبد الحكيم عامر في سيناء كان المنتصر هو شعب مصر الذي أفاق ليرى سيناء محتلة والقناة مدمرة والعرب مهانين، ومع ذلك تعالى عن جروحه كأرقى شعوب العالم وخرج يدافع عن نظامه. وفيما جلس الرئيس جمال عبد الناصر (حسب رواية هيكل) ينتظر أن تهاجم الناس الجيش وأن تقوم حرب أهلية، خرج شعب مصر يحمي مصر ويؤكد أنه أعظم المؤسسات التاريخية ويرفع راية مصر ويرد عنها الشعور بالهوان.

لقد أطلق على 23 يوليو أول الأمر اسم «حركة الجيش» ثم «الحركة المباركة»، وبعد أسابيع سميت بالثورة (1). والذي حوَّل «حركة الجيش» الى ثورة كان شعب مصر. وهذا الشعب سوف يخاطبه وزير الأشغال قائلاً: «إن دستور 1956 أراد أن يجنبك شر نفسك بأن خلق لك الاتحاد القومي الذي سيجنبك الضعف بأن يخلي الطريق أمامك من جميع الانتهازيين والمخادعين»!

لقد تراكمت لدى الأستاذ هيكل خبرة نادرة في التاريخ المعاصر. وقد شهد كمراقب ما آلت إليه حال الأمة. ولم يكن مبعث هذا الانهيار في أي مرحلة من المراحل جيوش العروش التي لم تخض حرباً على جار ولم تتوان لحظة في خوض الصراع مع إسرائيل بكل ما تملك. وهذه البلدان بالذات هي التي طلبت من شعب مصر، في عز الناصرية، أن يأتي إليها مدرساً وطبيباً ومقرئاً ومعلماً في الفقه وخبيراً عسكرياً. وترك المصريون أثراً وجهوداً وعلوماً في كل مكان ذهبوا إليه. وعندما أراد الملك عبد العزيز مشورة في السياسة طلبها من خيرة المصريين من دون حرج.

للأستاذ هيكل الحق والحرية في نقد من يشاء. لكن عندما يتحول المرء الى مؤرخ يفترض أن يصبح موضوعياً ومنصفاً وعادلاً، لأن مؤرخي المستقبل سوف يرجعون إليه. ولا يمكن لمؤرخ في الغرب أن يعود الى مرجع ثأري أو انتقامي أو انتقائي. ومن أولى صفات المؤرخ ألا يحاول إرضاء أو استرضاء المكان الذي يتحدث منه. فذلك شطط واضح على صدق التاريخ.

(1) راجع كتاب «الزحف المقدس» لشريف يونس