مصر الخاسرة دائما.. لم تخسر أبدا!

TT

قضي الأمر واستشهد السفير المصري في بغداد الدكتور ايهاب الشريف، ليلحق بركب شهداء الدبلوماسية المصرية، والذي كان أوله السفير كمال الدين صلاح الذي اغتيل في الصومال عام 1957 حيث كان يشغل منصب رئيس مجلس الوصاية للأمم المتحدة على الصومال، وهو والد زوجة وزير الخارجية المصري الحالي السيد احمد أبو الغيط.

وفي استشهاد الشريف على يد جماعة ظلامية، ومن أسف تدعي العروبة أو تتشدق بالإسلام، يتساءل الكثيرون هل قدر مصر على الدوام أن تدفع فاتورة دعمها للعرب؟

للإجابة أعود إلى كلمات قالها ذات يوم المفكر «جاك بيرك» صديق العرب والمسلمين الأكبر الفرنسي الكاثوليكي، قال فيها «ان مصر الخاسرة دائما لم تخسر أبدا»، وللوهلة الأولى يبدو الكلام متناقضا، لكن تأملا رائقا من شوائب الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة يجعلنا ندرك كم أن الرجل أوجز فأبلغ، وان بيرك بوصفه عالم اجتماع ومؤرخ، قد رأى بعينه الثاقبة مسيرة مصر عبر آلاف السنين في إطار «انطولوجي»، أثمر عن كيانات ثابتة قدر لها أن تتلقى ضربات الزمن، فتصدها وتردها وهي وان بقيت قليلا، فمصر في تكوينها الحضاري الخلاق كانت قادرة على أن تذيبها ومن ثم تمحوها من سفر الأحياء.

وبمعنى أيسر يود بيرك القول ان تقلبات التاريخ والتي خسرت مصر فيها بعض الجولات، لم تستطع ساعة أن تجعل من مصر خاسرة إلى الأبد، بوصفها كياناً أقوى من أن تزعزعه رياح التجارب.

ومعنى ذلك ان خسائر مصر حتى وان أصابتها في فلذات أكبادها تدفعها ومن جديد إلى آفاق مسؤوليتها التاريخية، في كونها البلد العربي القائد والرائد ولا شوفينية في الأمر، حين نقول انه عندما تئن مصر فإن الحمى تسري في جسد الأمة العربية، وانه عندما تقوى مصر يرفع الشرق الرأس عاليا، وزمن المد الثوري الناصري خير شاهد على ذلك.

ولا شك أن استشهاد إيهاب الشريف قد أثار تساؤلاً خيل لكثير من الناظرين أن زمانه قد ولى، لكن واقع الحال يقول بأنه يتجدد ثانية حول علاقة مصر بالعالم العربي، ويتمحور حول عروبة مصر وهل في الأمر ما يستحق هذا الجهد وتلك المعاناة والتضحيات الجسام؟ وقد رأى البعض سابقا أن علاقة مصر يجب أن تكون قاصرة على مساحة الأمن القومي من خلال مجموعة من الخيوط والخطوط الدبلوماسية أو الأمنية فقط.

والحق أن هكذا نظر يقودنا لاحقا إلى خروج مصر حضاريا عن المنظومة العربية، وهنا يحق التساؤل: من المستفيد من خروج مصر من سفر العروبة؟

وأقول انه حسنا فعلت مصر في بيانها الرئاسي الذي صدر عقب رحيل ابنها البار من أن «هذا العمل الإرهابي لن يثني مصر عن مواقفها الثابتة الداعمة للعراق وشعبه والمساندة لأمتها العربية وقضاياها»، ذلك لأنه فوت الفرصة على كثير من المتربصين بمصر، والذين أرادوا لها الانسلاخ عن عروبتها اسما ورسما تحت دعاوى متعددة، ليس آخرها انه لا يوجد هناك ما يسمى امة عربية، فلكل دولة كيانها ووجودها ومشاكلها التي لا تؤهلها مجتمعة لان تكون امة واحدة ذات رسالة خالدة، ناهيك عن محاولة إقحام مصر في كيانات مشوهة وممسوخة من قبيل «الشرق أوسطية» وما عداها.

وقد وجدت تلك الأصوات للأسف دعماً لها من قبل بعض الآراء في الداخل التي قالت بأن مصر أخطأت أو تسرعت في ابتعاث سفير لها إلى العراق في هذا التوقيت، وهو قول مغلوط ومردود عليه لان مصر لم تغب يوما عن العراق.

وفي قمة الألم الذي يعتصر قلب مصر المحروسة يكون سوء الظن من حسن الفطن، ويجدر التساؤل عمن له مصلحة في أن تغوص سفينة مصر في مياه الشقاء والتعاسة؟ ومن يعمل على دفعها بعيدا عن تأدية دورها الحضاري المشهود له وهو دور لا يعوقه مشهد الابن الدبلوماسي الذبيح.

نعم لقد خسرت مصر واحدا من أبنائها البررة، لكنها لم تخسر في موقفها معين النبع الحضاري والمخزون البشري الخلاق الذي لا ينضب، والذي يجعل منها على الدوام قلب العروبة حتى حين يتلقى هذا القلب طعنات الغدر أو حين تغدر به سهام المغنين لعصور الظلام.

* كاتب مصري