هيكل.. هذا ما تركته «الناصرية» للقرن الجديد!

TT

لو أن المرحلة «الناصرية»، التي كانت إحدى تجليات الحرب الباردة، لم تعط هذا القرن الجديد ولم تورثه إلا قلم محمد حسنين هيكل ولسانه، فإن من حق العرب ان يستدعوها الى قاعة محكمة التاريخ، وان يوجهوا إليها آلاف الاسئلة عما فعلته بهم، وعن أسباب مطاردتها لهم من عصر سابق الى عصر لاحق، والاستمرار في زرع الفتن بينهم وإذكاء نيران الفرقة في صفوفهم. لقد بقي محمد حسنين هيكل عنوان تشتت العرب وتفرقهم وانقسامهم الى فريقين متضادين متخاصمين، كل فريق يتآمر على الآخر بكل أشكال التآمر طوال «المرحلة الناصرية»، وكان من المفترض ان تنتهي هذه المرحلة برحيل الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، وبمجرد انتقال مصر، شقيقة العرب الكبرى بدون منازع، من المعسكر السوفياتي الشرقي الى المعسكر الاميركي الغربي، والتخلص من التبعية للكتلة الاشتراكية والشيوعية.

كان الاعتقاد ان صاحب بـ «صراحة»، الذي لم يكن صريحاً، إلا عندما يتعلق الامر بالذين رحلوا عن هذه الدنيا وغادروها الى دار الآخرة، سيقوم بمراجعة شاملة لكل مسيرة تلك المرحلة بكل سلبياتها، وأنه سيتخذ موقفاً محايداً ويتطلع الى الخلف ليقول رأياً صادقاً وصريحاً، وبعيداً عن التآمر والمؤامرات بمرحلة كانت عبارة عن لحظة عربية مريضة، تشاتم العرب خلالها حتى شبعوا، وحتى أضحكوا العالم عليهم وتآمروا على بعضهم بعضاً، على حساب مصالحهم وقضاياهم المقدسة، التي من المفترض ان تكون جامعة وليست مفرقة، وان يجري من أجلها تغليب الاساسي والرئيسي على الثانوي.

لم يفعل هذا الكاتب والصحافي الكبير، الذي أعطاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مفاتيح خزانة أسراره، والذي لم يعط هو للعرب إلا ذلك البرنامج الشهير: «أكاذيب وحقائق»، ثم وبدل ان يبادر الى فضيلة «النقد والنقد الذاتي»، التي بادر إليها قادة عالميون وتاريخيون كبار، فإنه بقي يراوح في الدائرة ذاتها، وبقي يسجن نفسه في زنزانة تلك الحقبة الرديئة من تاريخ العرب، التي استعار خلالها بعض الذين انحازوا الى المعسكر الشرقي، شعار غوبلز الشهير: «اكذب.. ثم اكذب وواصل الكذب، فإن الناس سيصدقونك بالنتيجة»!.

إن من حق محمد حسنين هيكل ان يبقى يغلّب إيجابيات «المرحلة الناصرية»، التي لا يزال يعتبر نفسه رمزها الاول، على سلبياتها، لكن ان يبقى يطارد الراحلين في قبورهم، ويبقى يُقوِّلهم ما لم يقولوه، فإن هذه سقطة كان يجب ان لا يقع فيها كاتب كبير، وقد أصبح في آخر مراحل خريف عمره.

ربما يمكن تصديق كل ما استنبطه محمد حسنين هيكل من وثائق مرحلة كان شاهداً عليها ومشاركاً فيها، ككاتب وكصحافي وكمسؤول، أما ان يقول إنه كان يتجول في أحد شوارع لندن، وأنه شاهد أناسا يتجمهرون امام حانوت لبيع الاثاث القديم، وعندما ذهب بدافع الفضول الى حيث يتجمهر الناس، وجد أوراق «كرمويل» بين الأثاث الذي كان يجري عليه مزادٌ علني، فإن هذه سقطة كبيرة وقع فيها رجل يعتبر نفسه أكبر مؤرخي هذا العصر.. والعصر الذي سبقه؟!

والسؤال الذي يتبادر الى أذهان حتى أصحاب انصاف العقول بالنسبة لهذه الحادثة، هو: هل يمكن تصديق ان أوراق كرمويل بقيت سليمة، وهي بدون حفظٍ وحماية من الحرارة والرطوبة، ومن عاديات الزمان لمئات الأعوام.. ثم يأتي صاحب حظ سعيد ليشتريها.. وقبل ان يشتريها يقرأها بالعين المجردة، وخلال دقائق ليتأكد من أنها مفيدة أو غير مفيدة؟!

ما هذا الكلام؟.. ولماذا يفترض الاستاذ محمد حسنين هيكل الجهل بكل مستمعيه الذين أطل عليهم في آخر الزمان، بعد ان بلغ به الكبر عتياً من خلال شاشة «جزيرة قطر».. الذين كان يطل على آبائهم وأجدادهم من زاوية بـ «صراحة».. وأي صراحة.. في ذروة عقود الحرب الباردة؟!

ثم هل من الممكن ان يصدق حتى أصحاب أنصاف العقول، أن بريطانيا العظمى بكل ولعها بالحفاظ على تاريخها وكل حرصها على تراثها وآثارها، لم تكتشف ان «كرمويل»، الذي أطاح بنظامها الملكي في إحدى فترات تاريخها الطويل، والذي أقامت له تمثالاً هائلاً لا يزال ينتصب شامخاً امام مدخل مبنى البرلمان البريطاني العريق، قد ترك أوراقاً مهمة وان هذه الاوراق المهمة بقيت مدسوسة بين أثاث المنازل لمئات السنين حتى أتى هاوٍ من العالم الثالث ليبتاعها بثمن «معقول»!

كل الذين يعرفون الاستاذ محمد حسنين هيكل، ومن بين هؤلاء الاستاذ الكبير سمير عطا الله، الذي كتب عن هذا الأمر وفي هذه الصحيفة الاسبوع الماضي، يعرفون أنه «يتبحبح» في الكتابة عن الزعماء والقادة بعد رحيلهم، وانه يُقوِّلهَم ما لم يقولوه ويلتقيهم في أماكن ومطاعم ربما لم يزوروها ولم يدخلوها في حياتهم!

لقد ضبط الأستاذ الكبير سمير عطا الله هذا المؤرخ والكاتب وصاحب بـ «صراحة» بالجرم المشهود عندما أشار الى أنه أي محمد حسنين هيكل روى، وبالطبع بعد رحيل الملك حسين بسنوات، ان العاهل الاردني جاء بعد ظهر احد الايام الى فندق «كلارجز» وانه أبلغه بمرضه حتى قبل ان يبلغ بذلك لا الملكة نور ولا أبناءه ولا ولي عهده وأركان دولته.. فهل يعقل هذا..؟!

وكان هيكل، سامحه الله، قد روى أيضاً وبعد رحيل العاهل الاردني أيضاً انه التقى الملك حسين في أحد مطاعم لندن الإيطالية ولأنه ذكر تاريخ ذلك اللقاء، الذي لم يحصل بالطبع، فقد بادرت السلطات الاردنية الى مراجعة ملفاتها فوجدت ان ملكها في ذلك اليوم الذي أشار إليه «المؤرخ والكاتب» الكبير لم يكن في بريطانيا على الإطلاق وأنه كان ينشغل بلقاء رسمي في بلده في الساعة التي أشار إليها هذا المؤرخ والكاتب الكبير!!

إن مشكلة محمد حسنين هيكل التي وجهت قلمه ردحاً من الزمن والتي أصبحت توجه لسانه، الذي وفرت له «جزيرة قطر» منصة لمتابعة «صراحته»، أنه جسَّد مقولة: «من شبَّ على شيء شاب عليه».. فقد بقي يتخذ موقف العداء، الذي يبرر الاستعانة أحيانا بوثائق غير موجودة وبأحداث لم تقع، ضد الملكية في الاردن وفي المملكة العربية السعودية وفي المغرب على اعتبار ان نظام عبد الناصر كان نظاماً جمهورياً وتقدمياً وان هذه الممالك رجعية!!

كلُّ العالم تغير وكل المعادلات الكونية تبدلت وبقي محمد حسنين هيكل في نفس مواقعه وخنادقه القديمة.. وبقي لا يتورع عن الاستعانة حتى بأوراق «كرمويل»، التي اكتشفها، بينما كان يتجول في أحد شوارع لندن، بينما لم تكتشفها بريطانيا العظمى بكل حَوْلِها وطَوْلهِا، ثم بقي يستشهد بلقاءات لم تتم مع زعماء وقادة بعد رحيلهم! عندما أعلن هيكل التوبة واعتزال الكتابة بكى «القومجيون» حتى تقرحت وتجرحت مآقيهم.. ومعهم كل الحق!.. ويومها لم يخالف هؤلاء جميعاً سوى سمير عطا الله.. فقد توقع بخبرته الواسعة ونظرته الثاقبة ان هذه التوبة لن تكون الأخيرة، وإن «الطبع سيغلب التطبع» وأنه سيعود ذات يوم وإن بنسخة جديدة.. والحقيقة أنه عاد، لكن بلسانه وليس بقلمه.. ومن «جزيرة قطر».. وجوار قاعدة «العديد»!