هذا أو الطوفان

TT

قلت في كتابي «تحديات التسعينات» الذي ألفته في السجن، ونشر عام 1990، إن المسرح الدولي يتأهب لمعادلات جديدة. وأنه ما لم تتحالف القوى المعتدلة في الغرب مع قوى الاستنارة الإسلامية لبناء عالم أعدل وأفضل، فإن السجال بين الهيمنة الغربية وبين التشدد الإسلامي سيدفع بالعالم نحو عهد ظلامي جديد. وقلت إن قوى الاحتجاج في عالمنا مع ضعفها الاستراتيجي، فإنها سوف تستخدم في احتجاجها أسلحة الضرار السبعة: الإرهاب، الهجرة غير القانونية، القنبلة السكانية، القنبلة الصحية، القنبلة البيئوية، إنتاج المخدرات وتسريب أسلحة الدمار الشامل.

وها هو السجال بين الغلو الإسلامي والهيمنة الغربية الآن يسارع الخطى نحو العهد الظلامي.

بعد أحداث 11 ـ 9 ـ 2001 الداوية الدامية تدارس صناع القرار في الولايات المتحدة تقريرا مفاده بأن العالم الإسلامي هو المنطقة الأكثر عنفا في العالم والأعلى في نسبة الشباب في سكانه، والأكثر خضوعا لنظم استبدادية والأكثر حدة في الفوارق الاجتماعية، وهي ظاهرة ركز عليها تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002 الذي تبناه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.. وجاء في الدراسة الأمريكية أنه ما لم تجفف مصادر العنف هذه فإنها سوف تصدر للعالم.

لقد ركزت الدراسة الأمريكية المذكورة على العلاقة السببية بين استبداد الحكم في البلدان المعنية وظاهرة العنف السياسي، ولكنها أغفلت علاقة سببية أخرى بين السياسات الأمريكية الهجومية والإسرائيلية العدوانية وبين العنف السياسي. ولذلك تبنت الإدارة الأمريكية الجديدة في عام 2002 استراتيجية نحو المنطقة تتخلى عن التحالف القديم مع النظم الحاكمة، وتنادي بالإصلاح الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط الكبير «العالم الإسلامي». هذا المشروع اتخذ في البداية طابعا فوقيا طموحا ولكنه بعد ذلك تواضع خطوة خطوة إلى صورة تبنتها قمة الدول الثماني في عام 2004 ، ثم عقدت قمة جمعت الدول الثماني ودول المنطقة في الرباط واتفق على ما سموه الشراكة من أجل المستقبل.

منذ ما قبل أحداث 11 ـ 9 وخاصة بعدها شهدت المنطقة المعنية حراكا سياسيا متزايدا وتحركا تقوده منظمات المجتمع المدني مما أدى إلى عقد مؤتمرات، وورشات، أصدرت مئات التوصيات التي رفعت إلى لقاءات القمة، ولكنها لم تؤثر على قراراتها فصارت التوصيات عبارة عن أمنيات بينما حولت الدول لقاءات القمة إلى تمارين علاقات عامة. هذه المؤتمرات والورشات التي تنظمها منظمات المجتمع المدني لم تؤثر في قرارات القمة بالقدر المطلوب كما ذكرنا، ولكنها تحقق ثلاثة أهداف ذات قيمة مستقبلية: الأول تحقق درجة من التعارف بين الجهات المعنية، والثاني تبلور رؤى محددة للإصلاح والثالث تتلمس الطريق لإقامة منبر شعبي مدني، وهذه تمهد لما بعدها في الوقت المناسب.

في الثلث الأخير من شهر يوليو المودّع دعت طائفة من منظمات المجتمع المدني الأوربية مثل «لا سلام بلا عدالة» و«مركز الجامعات المعني بحقوق الإنسان» وغيرها بالتعاون مع دول أوربية مثل إيطاليا وعربية مثل اليمن لورشة في مدينة البندقية، ورشة أمَّها عدد كبير من منظمات المجتمع المدني من دول الشرق الأوسط الكبير.

تداولت الورشة ملفات الإصلاح السياسي في مجالات الأحزاب السياسية والنقابات، منظمات المجتمع المدني، الانتخابات والإعلام. وأصدرت دراسات وتوصيات يرجى أن ترفع لمؤتمر الدول الثماني ودول المنطقة القادم في أكتوبر في الرباط. وستعقد في صنعاء ورشة أخرى في سبتمبر لبحث ملفات الإصلاح الأخرى.

القوى العظمى بقيادة الولايات المتحدة لن تتخلى عن المنطقة لثلاثة أسباب أساسية: الأول النفط، الثاني حماية المشروع الإسرائيلي، والثالث منازلة حركات الغلو الإسلامي.

«الغلاة» طوروا أجندتهم السياسية إلى طرد الوجود الأجنبي من المنطقة ومنازلة النظم الحاكمة بغية إقامة نظام بديل، نظام يقوم على قراءة منكفئة لنصوص الدين، ويزمع إدارة ظهره للعصر وإقصاء كل التفسيرات المخالفة حتى داخل الحقل الإسلامي نفسه.

هاتان الأجندتان تتباريان لتحديد مصير المنطقة، وفي المقابل فإن المشروع الديمقراطي الإسلامي المعتدل الذي يتبناه الحراك السياسي والمدني باهت وغير منافس، ما لم يحقق زخما شعبيا مدنيا قويا يفرض حوارا فعالا مع الحكومات ويقيم لنفسه منبرا مشتركا، ويحتل موقعا أساسيا فيجعل الحوار الثنائي بين الدول الثماني وحكومات المنطقة حوارا ثلاثيا.

الحوار الثنائي بين الدول الثماني وحكومات المنطقة سوف يراوح مكانه لأن حكومات المنطقة غالبا غير معنية بتحول ديمقراطي حقيقي بل بإجراءات زخرفية تكفل استمرار الاستبداد وسياساته لا التحول منه.

الطريق الثالث الذي ينبغي أن يتبناه ويسير فيه حماة المنطقة، حماة عقيدتها الوسطية ومصالحها الوطنية، يتطلب مشروعا ثقافيا نهضويا ينقذ المسلمين من عقيدة ولاء وبراء إبادية للآخر تحقق مزيدا من تفرقة المسلمين وتضعهم مستهدفين. هذا الطريق الثالث يتطلب تفعيلا للقوى الشعبية والمدنية ، ويتصدى للاستبداد الداخلي بخطة غير استئصالية لإقامة الحكم الراشد القائم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وحكم القانون. ويتصدى للعدوان الخارجي بأسلوب فعال لا يحقق عكس مقاصده.

الورشات والمؤتمرات الجارية تمارين تهوية لا بأس بها، فهي تتيح على الأقل للناشطين تبادل المعلومات والخبرات، ولكن ما لم تتكون في كل قطر إرادة شعبية مدنية تحقق الأهداف المذكورة، وتحقق تعاونا واسعا فيما بين الشعوب في البلدان المعنية، وتعاونا فعالا مع قوى الاعتدال والاستنارة في الغرب، فإن السجال الحتمي بين الغلاة والغزاة سوف يدفع بالعالم نحو عهد ظلامي هو الطوفان.