الفاتيكان... إن صمت

TT

دولة واحدة في العالم ـ وربما وحيدة ـ تقول «لا» لاسرائيل... والعرب غافلون عن مغزى هذا «اللا»؟

صحيح انها دولة الفاتيكان الصغيرة. ولكن الفاتيكان صغير بمساحته، كبير بتأثيره المعنوي على حوالي المليار كاثوليكي في العالم والدبلوماسي على العديد من الدول الغربية الكاثوليكية.

أما حصة العرب في هذا الخلاف فلا تعود فقط الى كونه ناشبا حول ما تعتبره تل ابيب «إرهابا فلسطينيا» بل الى الطعن في «شرعية» رد الفعل القمعي الاسرائيلي لأعمال العنف الفلسطينية واعتبارها، جهارا، مخالفة للقانون الدولي.

بوادر الخلاف ظهرت أواخر الشهر الماضي مع استدعاء وزارة الخارجية الاسرائيلية ممثل حاضرة الفاتيكان في اسرائيل لتشكو رسميا من صيغة بيان ادانة اصدره البابا للتفجيرات الارهابية في كل من لندن وتركيا ومصر (شرم الشيخ) والعراق... بداعي ان البيان تجاهل ذكر حادثة التفجير الانتحاري في نتانيا ايضا. وذهب المتحدث باسم وزارة الخارجية الاسرائيلية الى حد اتهام البابا بنديكت السادس عشر «بالإغفال المتعمد» لحادثة نتانيا والى اعتبار «صمته المدوي» حيالها بمثابة «ترخيص لأعمال العنف ضد اليهود».

تحويل «الحبة الى قبة» اختصاص اعلامي اسرائيلي عريق. ولكن تكرار اسرائيل انتقاد الفاتيكان لاخفاقه ـ منذ مدة طويلة كما قال مسؤول في حكومة ارييل شارون ـ في ادانة اعمال العنف التي تتعرض لها اسرائيل «باللهجة نفسها» التي يدين فيها العنف في الدول الاخرى، أخرج الفاتيكان عن تحفظه الدبلوماسي ليعلن المتحدث باسم البابا أن الفاتيكان «لا يقبل دروسا وتوجيهات من أي سلطة كانت» وليوضح أن سبب التفريق بين اعمال العنف في اسرائيل وفي غيرها من الدول يعود الى ان الهجمات التي تتعرض لها اسرائيل غالبا ما تستتبعها عمليات قمع عسكرية «تشكل خرقا للقوانين الدولية». قد لا يصل الخلاف بين الفاتيكان وإسرائيل إلى حد اتاحة الفرصة لعودة الجانب العربي الى طرح مطلبه (المنسي) باعتماد تعريف دولي متفق عليه للارهاب. ولكن مجرد خروج الخلاف الى العلن يضعف حجة اسرائيل في نعت كل اشكال المقاومة الفلسطينية للاحتلال بـ «الارهاب»، و يخرق جدار الصمت الدولي على ردود فعلها المفرطة في العنف ويعزز تركيز الجانب العربي على «الارهاب الرسمي» الذي تمارسه اسرائيل دون رادع أو حتى منتقد لها.

هذا، بحد ذاته، مكسب اعلامي عربي يستدعي البناء عليه للتوسع في كشف «أخلاقيات» اسرائيل في ما تسميه «محاربة الارهاب».

ولا يخفى أن «جرأة» الفاتيكان في وضع النقاط على الحروف في لغة تعامله مع اسرائيل تأخذ بعدا خاصا في عصر الزعامة الأحادية الانغلوساكسونية (والبروتستنتية بالمناسبة) للعالم. وفي هذا السياق تبدو مقاربة الفاتيكان للخلاف مع اسرائيل أكثر بعدا سياسيا من الخلاف نفسه إذا اعتبر مؤشرا على انقضاء مرحلة الدبلوماسية الهادئة بينهما مع انقضاء عهد البابا البولندي الاصل، يوحنا بولس الثاني، وتسلم البابا الالماني الاصل، بنديكت السادس عشر، دفة الأمور في الفاتيكان.

من المسلم به ان موقف الفاتيكان من اسرائيل لا يعود فقط الى تباين في تقويم «أخلاقيات» العنف بل الى خلافات مزمنة بين سدة الكثلكة الدولية ومعسكر اليهودية العالمية عمّقها تجاهل الزعامة البروتستنتية للعالم تسويتها على اسس ترضي الفاتيكان (وابرز هذه الخلافات مطالبة الفاتيكان بوضع القدس المحتلة ـ عاصمة اسرائيل «الابدية» ـ تحت وصاية دولية ومنح الاكليروس الكاثوليكي وضعا خاصا بصفته حارس الاماكن المقدسة المسيحية فيها.)

ولكن، إذا جازت العودة الى منطق صامويل هنتنغتون، قد يجوز الافتراض بأنها مؤشر أولي «لصدام حضارات» آخر لم يحن الوقت، بعد، لخروجه الى العلن.