غني لي!

TT

خرج المطرب صاحب الصوت الجميل، ودبلوم معهد الموسيقى، يشكو من ظلم الملحن المخضرم إيلي شويري، الذي يشكك في عصره، وفي قدرات المطربين الذين لا يستحقون لقب مطرب بل مؤدٍ أو مغنٍ. قال المطرب المثقف الحساس: «هذا ظلم يا أستاذ إيلي شويري، أنت تظلمنا، نحن صرنا في (مغيطه)، بينكم وبين الجمهور. جمهور يريد الأغاني السريعة الهزازة المزازة، وبين ناس متل حضرتك تشكك في قدراتنا وأصواتنا إن لم نغن مثلما تشاء، ولو غنيت من ألحانك يا أستاذ إيلي شويري ذات الجمل الموسيقية العريضة، لن تضع الملاهي الليلية أغاني على مسرحها الملون بالرقص والهشك بشك، ولن تذيع الإذاعات العربية أغاني.. لن يسمعني أحد!».

لست هنا معنية بمستقبل الأغنية العربية، التي تحولت من «غني لي شوي شوي» إلى «بسرعة بسرعة»، بل معنية بالدرجة الأولى بأزمة اللون الواحد، والمشاكل المتشابهة، في مجتمعنا العربي، فلو اكتشفت أن زميلنا المطرب لا تختلف مشكلته عن زميلنا الكاتب، وعن كل من يتعاطى مع الشأن الجمهوري (من الجمهور وليس الحكم).. هذا الجمهور الذي يراقبك ويملي عليك سرعة ودرجة وإيقاع مسارك، لا يسمح لك بأن تهبط ولو قليلا عن خطه، أو تلامس شيئا في الداخل، ابق دائما على السطح، أنا شخصيا لست ضد متذوقي السطح، فلولا تعدد الأذواق لبارت السلع، لكننا اليوم لم نعد نهنأ ـ بتعدد الأمزجة، والأذواق، والألوان. لم يعد يحكمنا غير الذوق الواحد، السريع، المزاج المفتعل للفرح والمجاملات المزيفة وربما الباهتة.

الكاتب العربي اليوم صار مثل مطربي اليوم، يضطر لمجاملة الجمهور ـ بأن يسمعه ما يشاء من الجمل الخفيفة، والإدانات الجاهزة، والشعارات العريضة، وإن لم يفعل فلن تسعى إليه الفضائيات العربية، ولن تعنى بشأنه، وتبث صوره، ولن توجه له الدعوات، وتنشر مقالاته الصحف. يجامل بعض الكتاب هذا الجمهور خوفا من البيض الفاسد حتى ولو خرج من فمه رأي فاسد. أصبح الكاتب مثل المغني الذي لا يميز نجاح أغانيه إلا إذا بثتها جدران الملاهي الليلية. لم يعد مهما أن يغني آراءه الخاصة المستقلة العريضة، لأن الجمهور العربي صار ديكتاتورا أيضا، لا يقنعه سوى الرأي الواحد، والمزاج الواحد، والأغنية الواحدة، والإيقاع السريع الواحد، والكاتب الواحد، فالديكتاتوريات لا تسمح للمزاج العام بأن يخرج عن السطر، ولا يغني خارج السرب، ولا أن يكتب كاتب إلا أسود وأبيض. لكن التجربة تقول:

لا تصغوا لجمهور يهتف: معك إلى الأبد، حتى ولو رموكم بالبندورة والبيض الفاسد، فخير لك أن ترمى بنعمة الله على أن تبوء بلعنته!

[email protected]