بعض دروس: 60 عاماً على كارثة هيروشيما

TT

في 6 و9 أغسطس تم ضرب هيروشيما وناغازاكي بالسلاح الذري الانشطاري، وبتوقيع واحد من الرئيس الأمريكي (ترومان)، بمسح مدينتين في ثلاثة أيام حسوماً! والسؤال هل كان استعمال السلاح النووي ضروريا؟

لقد تضاربت الآراء حول استخدام السلاح النووي في أربعة اتجاهات; فأما انريكو فيرمي Enrico Fermi، فكان يمثل وجهة النظر التي تقول دعنا نقوم باستعراض للقوة أمام خليج طوكيو، فيعرفون أنهم يواجهون سلاحاً لا قبل لهم به؟ فلا نحمل وزر حرق الأطفال الأبرياء والنساء الحوامل، ونرسل إلى عالم أنوبيس مئات الآلاف من الأكفان؟

وكان الجواب مضاعفا ماذا لو لم تنفجر؟ ثم إنه ليس في اليد سوى ثلاث قنابل جاهزة للاستعمال، فأما الأولى فجربت في صحراء آلامو جوردو وبقيت اثنتان، لم ينتج خلال سنتين مصنع أوك ريدج Oak Ridge عند نهر تينينسي، سوى واحدة من نوع اليورانيوم 235 المخصب، وأعطيت اسم الولد الصغير little Boy، والثانية في لوس آلاموس من نوع البلوتونيوم 239 التي جربت، وعمدت باسم الثالوث المقدس ترينتي Trinity، وسميت الرجل السمين Fat Man لأنها مكورة ضخمة بوزن 4 أطنان.

أما ليزلي جروفز Lesli Groves الرأس العسكري لمشروع مانهاتن في لوس آلاموس، حيث تم تصنيع قنبلة البلوتونيوم، فكان رأيه أن معظم المدن اليابانية أصبحت هشيما تذروه الريح، فلنجرب مدينة مهمة جميلة كثيرة السكان لم تدمر بعد؟ وإن كيوتو المدينة الأثرية المقدسة ذات الثلاثة آلاف معبد، ويسكنها الملايين، تجربة جميلة مثيرة على الفئران اليابانية؟

ومن أنقذ المدينة كان وزير الحربية الأمريكي هنري ستمسون، الذي كان يحمل لها أطيب الذكرى، فبدأ لوردات الأولمب في انتقاء أمكنة الإفناء الأخرى؟

أما روبرت أوبنهايمر الرأس العلمي للمشروع، فرأى أن تضرب اليابان وبشدة وفوق رؤوس الناس، لتكون الصدمة في حدها الأقصى وفي أكثر من مكان وقنبلة ـ ظهر للسطح معلومات عن ضرب ناغازاكي بقنبلتين، واحدة منهما لم تنفجرـ؟ وهو الرأي الذي تم تبنيه، فانفجرت بارتفاع 600 متر فوق منتصف المدينة، صباحا عند الساعة 8,16 دقيقة وقت الذروة، فساء صباح المنذرين. فهذه الطريقة الوحيدة لاستسلام اليابان وإنهاء الحرب; فاليابانيون كما وصفهم ترومان: قوم قساة غلاظ شداد، عنيفون متعصبون برابرة دمويون، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا.

وأما من رأى أن اليابان في طريقها للاستسلام، بعد فك الشفرة اليابانية، ومعرفة أن هناك اتصالات بين الامبراطور هيروهيتو مع السفير الياباني ناأوتاكي ساتو لدى الديكتاتور ستالين، في توسيطه مع الأمريكيين من أجل سلام عادل مشرف مشروط، وأن المسألة مسألة وقت، فلم يبق شيء في اليابان لم يحطم، وأن سمعة أمريكا في التاريخ ستكتب في الأذلين، انها كانت أول من استخدم السلاح الذري ضد البشر، وهو عار لن يغفره لها التاريخ; فلم يلتفت إليه أحد.

واليوم تظهر معلومات جديدة للسطح، أبرزها الدراسة التي قام بها تسويوشي هازيجاوا Tsuyoshi Hasegawa من جامعة هارفارد في كتاب بعنوان «تسابق العدو: ستالين ترومان واستسلام اليابان»، وفيه ذهب المؤرخ إلى الزعم بأن ما جعل اليابان تستسلم، لم يكن السلاح الذري، بل دخول الروس إلى منشوريا، في 8 أغسطس 1945، فستالين المجرم، بعد أن اغتصب كل امرأة ألمانية، وكانت سياسة الجيش الأحمر ليست العين بالعين، بل العين بعينين، وكل قطعة حديد ومصنع ومؤسسة وجهاز، وقع في أيديهم من الأرض الألمانية، نهبوه بأشد من أتيلا زعيم الهون. قام المجرم بسحب مليون جندي من ألمانيا، ودفعه باتجاه الشرق في 136 ألف عربة قطار، في ثلاثين رحلة يوميا باتجاه منشوريا، وكان السباق مجنونا حول قطف الثمرة اليابانية الساقطة، فالأسد الأمريكي لا يريد المشاركة في غنيمة تعب فيها، والدب الروسي سال لعابه لفريسة فاحت رائحة دمائها، فهيجته بإثارة لا تقاوم. مع أن الاتحاد السوفيتي اشتراكي أبو الفقراء والمعوزين؟ ولكنها سخرية التاريخ، وكما يقول أرسطو فالتاريخ تراجيديا لمن يشعر، وكوميديا لمن يفكر؟

والحرب جنون، وهي سلخ جلد الحضارة; ليبرز الوحش الإنسان بدون قانون، وفي الحرب ليست حرمة لشيء. وهو ما قاله الملاح فان كيرك Van Kirk في طائرة ب 29، التي ألقت القنبلة، وهو يتذكر ما حدث: كان جنونا، ومن بدأ الجن، وجب أن ينهيه بسرعة ولعلنا فعلنا ذلك؟

وبعد ضرب هيروشيما كان حامل أختام الامبراطور كوإيشي كيدو Koichi Kido هو من نقل الخبر إلى الامبراطور، الذي قال لجنرالات الحرب، إنني أريد أن أوقف معاناة شعبي، بانتظار أن يعلنوا الاستسلام، وطلب من وزير خارجيته شيجينوري توجو إنهاء الحرب بأي ثمن، ولم يبق أمام الجنرالات إلا الدموع، أو ما فعله وزير الحربية الياباني كوريشيكا أنامي فهو الانتحار على طريقة الهاراكيري ببقر البطن بالخنجر، أو محاولة الانقلاب كما فعل الضابط كنجي هاتانكا ففشل.

وفي 15 أغسطس توجه الامبراطور إلى شعبه، ليقول لهم عليكم أن تتحملوا ما ليس لأحد قِبَل في تحمله، فقد كتبت علينا الهزيمة. أما في بوتسدام فكان ترومان، كما وصفه تشرشل، شخصا آخر يتكلم بلغة يقينية، ويفرض الأوامر منتفخا كديك الحبش، بعد أن تلقى خبر القنبلة بالتلغرام رقم 32887»: العملية تمت هذا الصباح. التشخيص لم ينته. النتائج فاقت التوقعات». وكانت توقعات المجرم غروفز، أن يكون عدد الضحايا عشرين ألفاً، ولكن مات 140 ألفا، ومن أصل 76 ألف منزل، احترق سبعون ألفا ودمر، فقد كانت قنبلة ما تذر من شيء أتت عليه، إلا جعلته كالرميم، وما يزال الموت يلحق الناس جيلا بعد جيل مثل اللعنة; من جراء الطاعون الذري، كما وصفه صحفي أسترالي يومها. من أمراض اللوكيما وسرطانات الدم والدرق والثدي والاعتلالات العصبية.

ولكن أعجب ما حدث من ولادة السلاح الذري، أن الحرب وتاريخ الإنسان أخذا منعطفاً جديدا، فحروب نابليون بين 1805 و1815 كلفت 775 ألف ضحية، ولكن مخطط الحرب، قفز إلى 15 مليون ضحية في الحرب العالمية الأولى، ليصعد إلى ستين مليون في الثانية، وبعدها لم تتكرر حرب عالمية، ولم يستخدم السلاح الذري، إلا تلك المرة مع كل التوترات التي حدثت في كوبا وكوريا، وحينما طلب مك آرثر الجنرال الأمريكي، عشرين رأسا نوويا، ليضع حداً للصراع المسلح في شبه الجزيرة الكورية عام 1950، ولم يمض على قنبلة هيروشيما أكثر من خمس سنوات، كلفه هذا منصبه، فالسلام كان أهم من حماقة جنرال.

وكما يقول مالك بن نبي القوة أنهت القوة، والحرب نسخت الحرب، فأصبحت شريعة مطوية، ومن فرن النار النووية ولد خبز السلام العالمي، وكانت الحرب الباردة فترة سلام طويلة، واليوم ودع العالم الحرب في الشمال، ولا نرى الحرب إلا بين المتخلفين أو لتأديب المتخلفين.

وفي كندا يوجد من النحل والملل، ألف ضعف ما يوجد في العراق، ولا يتقاتلون، ومن نزع الله من قلبه الفهم والرحمة، فالحرب الأهلية وصدام والحجاج والسفاح أولى به; فهذه قوانين التاريخ.

ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه.