السودان: المستعصي على قرنق يبدو سهلا مع سلفا كير..!

TT

بدأ الزعيم الجديد للحركة الشعبية سلفا كير مباشرة مسؤولياته بانجازات كبيرة لم يتوقع الوصول إليها بهذه السرعة، وهي كانت عصية على جون قرنق بالرغم من الالتفاف الشعبي الكبير الذي كان باديا خلفه في الشمال والجنوب، اذ لم يكن خافيا ان قرنق كان يواجه مأزقا كبيرا وخطيرا في علاقاته مع غالب القوى السياسية والمليشيات العسكرية في الجنوب. والشاهد على ذلك فشل آخر محاولات رأب الصدع التي سبقت اداءه القسم الرئاسي وجرت في نيروبي، خاصة ما نشر عن اللقاء المثير الذي تم بين قرنق والجنرال فالينو متيب قائد المليشيا المعروفة باسم قوات دفاع جنوب السودان، وهي قوات تنتمي الى قبيلة النوير احدى اكبر القبايل واشهرها فروسية في فنون الحرب في جنوب السودان. وهي قوات تتمركز في مناطق النفط مما يزيد من ثقلها واهميتها!

في ذلك اللقاء كان مطلب فالينو من قرنق هو حل الجيشين، جيش الحركة، وجيشه وسائر المليشيات الاخرى والتوصل الى اتفاق يفضي الى تشكيل جيش قومي جنوبي يكون موضع القبول من مختلف الشرائح الجنوبية، وانه يرفض الانخراط في جيش الحركة ومستعد لمقاومة جيش الحركة والجيش الحكومي على حد سواء!

هذه المعضلة الكبيرة والخطيرة تم تجاوز حدتها بمجرد اعلان اختيار سلفا كير خلفا لدكتور قرنق بترحيب القائد المناوئ بالزعيم الجديد مع ابداء استعداده للتفاهم، ولم يتأخر سلفا كير من رد التحية باحسن منها، وبعد اداء القسم مباشرة تواصلت الاجتماعات والعاصمة السودانية تتحدث عن اتفاق وشيك والبعض يردد انه قد تم بالفعل!

كذلك رحب المنبر الديمقراطي الجنوبي وعدد من الشرائح الجنوبية الاخرى التي كانت في خصومة حادة مع الحركة وزعيمها الراحل بالزعيم الجديد، وتم الاتفاق في اجواء من التفاؤل على عقد المؤتمر الجنوبي ـ الجنوبي وصولا الى وحدة رؤى كل الجنوبيين. وجدد سلفا كير في احاديثه في القصر الرئاسي التأكيد على مبدأ الشورى والتعاون مع كل القوى السياسية وقال بالحرف: ان الشورى ستكون ديدن سياسته وانه سيتعاون مع الجميع من اجل تنفيذ اتفاقية السلام. وذكر ان السودان يمتلك كثيرا من المقومات التي تجعله في مقدمة الدول سواء في افريقيا او العالم. ولم يخف تبرمه من اجهزة الاعلام لما روجت له عن انفصاليته او عدم حماسته للوحدة مؤكدا ان الوحدة هي مبدأ اساسي ضمن مبادئ الحركة وهو من المؤمنين بهذا المبدأ ولم يغادر الحركة مع من انشقوا سابقا داعين للانفصال، لكنه أمن على ان تحقيق الوحدة يتوقف على عمل الجميع في التنمية وفي تنفيذ اتفاق السلام وكل ما من شأنه يفضي اليها.

ولعل سر الترحيب بالقائد الجديد من كل الفصائل التي كانت مناوئة لسلفه جون قرنق هو قناعتها بمبدأ الشورى الذي يؤمن به وظل يعمل له داخل الحركة وحاول توطيده رغم جموح قرنق واستناده الى طغيان شعبيته ما يجعله يتفرد بالقرار في غالب الاحيان.. وهنا كانت دائما ابرز محطات الخلاف بينه وبين سلفا كير!

وكذلك كان قرنق يتطلع الى أبعد من زعامة كل السودان، بل الى افريقيا بأسرها، بينما سلفا كير لا مطمح له في زعامة كل السودان ناهيك عن افريقيا ويجنح نحو اسلوب القيادة الجماعية. وكلا الرجلين ووجه بطائفة من الانتقادات في نهجه واسلوبه، فهناك شرائح مقدرة من الرصيد الجنوبي المثقف ترى في تطلعات قرنق الزعامية ما يعد خصما على قضايا الجنوب العاجلة والملحة لقاء اشباع طموحاته التي لا دخل لاهل الجنوب فيها ولا مصلحة لهم، بينما هو يكرس جل وقته من اجل هذه الغاية، فان اهل الجنوب يدفعون الثمن مزيدا من سحق الموت لهم بمختلف الاشكال.

وفي الجانب الآخر يتهم سلفا كير بانه وراء تواضعه وانكبابه نحو قضية الجنوب يخفي نزعة انفصالية دينية بالرغم من تأكيده على ايمانه بوحدة البلاد ونزوعه للشورى والقيادة الجماعية وهو ليس بالضرورة يفترض ان يكون نسخة مكررة من قرنق! وحتى لو اراد فلن يكون بوسعه في ظل هيمنة قرنق ان تظهر مواهبه الزعامية في حضرة الزعيم الاوحد! وبالتالي فان ما هو متاح له الآن بعد غياب قرنق لم يكن واردا من قبل، لكن البعض تحلو لهم المقارنة بين شخصية قرنق وسلفا بشخصيتي الزعيم عبد الناصر والرئيس السادات! ومهما يكن من الامر فقد باتت القناعة شبه مطلقة بان قرنق كان زعيما وحدويا سواء كانت المسألة متعلقة بايمانه بضرورة الوحدة كضرورة وطنية ام كانت بسبب طموحاته الشخصية في الزعامة، وقد بنى بالفعل شعبية في الشمال كان من الممكن ان تؤهله للفوز بالرئاسة في الانتخابات القادمة وكان من الممكن ان يكون احد الزعماء البارزين في افريقيا.

الآن اضحت كل هذه الافتراضات جزءا من الماضي وما يهم بالدرجة الاولى هو ما سينطوي عليه نهج واسلوب الزعيم الجديد. وهذا امر من المبكر القطع فيه بهذه السرعة والرجل لم يتسلم كل الاعباء بعد. ولكن من حظه ان قدومه استبق تشكيل حكومة الجنوب وحتى تشكيل الحكومة المركزية الجديدة وصياغة دستور حكم الجنوب، وهذا ما سيسهل عليه كثيرا في اعطاء التشكيلات المنتظرة الكثير مما كان سيستعصي عليه عمله بالسرعة المطلوبة لو قدر لقرنق انجاز هذه المهمات قبل وفاته. وهذه فرصة ليضع بصماته بشكل سريع ومريح!

وبما ان الرجل عرف بالتأني في الاحكام والسعي الدؤوب لبسط الشورى فان المراقبين والمقربين منه يعتقدون انه سيعطي الاولوية لعقد المصالحات الجنوبية ـ الجنوبية وفي ضوء ما تسفر عنه من نتائج سوف يشكل حكومة الجنوب، وبنفس القدر يفكر مليا في تركيبة الحكومة المركزية وانه في كل الحالات سيراعي كل التعقيدات المحيطة بتركيبة الجنوب القبلية والتوازنات المطلوبة خاصة انه وجد من كل الاطراف دعما واستبشارا بتوليه الزعامة وتفهما منهم لما كان يبشر به من قبل بان وحدة الجنوبيين هي اولى الضمانات لتوطيد السلام وحتى كتابة هذا المقال لم تبرز في صفوف الحركة الشعبية اية انقسامات ولم يواجه بأية انتقادات من اي فصيل من الفصائل الجنوبية عسكرية او سياسية بل ترحيبها كلها في تزايد مستمر.