دروس في الجمال

TT

يعلمني بعض اهل قريتي دروساً شديدة العمق في التمتع بالحياة. لقد أنستني المدن والاسفار وفيضانات السياسة، تلك الاشياء الصغيرة التي تشكل في مجموعها بهجة بسيطة لا ثمن لها. فقد جال احدهم في حديقتي ثم التفت اليَّ معاتباً: «أين الحبق؟ ما معنى كل هذه الزهور التي لا عطر لها؟ هل نسيت ان الحبقة ملكة الجنائن». ولاحظ آخر انني زرعت النعناع ولم ازرع البقدونس، فقال ساخرآً «تبّولة من دون بقدونس؟».

الفارق بين الحدائق العامة وحدائقنا الصغيرة، كالفارق بين المدن والقرى: الشعور بالانتماء. والشعور بالتملك. كان «الهايد بارك»، بطوله وعرضه وبحيراته، جزءاً من حياتي شبه اليومية. اعبره من جهة الى جهة، ترافقني طيوره وفراشاته. لكن لم يكن في امكاني ان المس زهرة او اسقي وردة. وكنت ارى المتقدمين في السن والمعانين من الوحدة يطعمون الحمام ويحاكون السناجب ثم يعودون الى وحدتهم في مكان ما. وكنت ارى سيدة عجوزاً تسأل كل من تصادف عن الوقت، لانها تريد ان تخاطب اياً كان والا تنسى متعة النطق. اما الوقت نفسه فكان واضحاً انه لا يعني لها شيئاً. لقد حطمت الوحدة عقارب الساعة في حياتها.

يزورني بعض شيوخ القرية ويتركون خلفهم دروساً، مثل رحلات كونفوشيوس في البرية. ويعلمني البعض ماذا يجب ان ازرع لكي اضمن مجيء عصافير الدوري. واي شجرة يجب ان اربي لكي اتمتع بمشهد ابا الحناء. ويقولون ان طلب الاكل الجاهز من المطاعم «عادة بيروتية» لا ضرورة لها هنا. فلماذا خلق الله اذن «اللوبياء العاقلة» التي تؤكل نية ومطبوخة ومتبلة؟ ولماذا كان الفارق بين لبنة الماعز واللبنة الجاهزة؟ ولماذا يذهب الانسان الى القرى اذا كان سيبقى رأسه غارقاً في الكتب بدل ان يرفعه ليرى القمر سارحاً على هواه فوق الصنوبر ليستمع الى فيروز وهي تغني له «القمر بيضوي عَ الناس، والناس بيتقاتلوا».

تسير الحياة هنا ببطء ساحر. الصرار يغني حتى الغروب. والعصافير لم تعد تفر هاربة عندما افتح الباب في الصباح، فقد ادركت ان لا نيران صديقة في المنزل. ويبدو ان طبقها الاشهى هو الكرز، ارجوانياً وداكناً وبين بين. وعندما يزورني شيوخ من القرية، يوزعون نصائح في العيش، وحِكماً في العثور على الفرح في كل الاشياء وكل الايام وكلما مرَّ القمر مؤنساً ومبهجاً. وعندما يمرّ بي الراعي، تاركاً قطيعه في الخارج، يسحب من جيب سرواله قصيدة زجلية جديدة، يقرأها عليَّ، ويطلب مني ان اساعده في طبع ديوانه لدى احد الناشرين. واعتذرت عن ذلك، متعهداً بالمساهمة في الطبع. ويزورني ايضاً بعض شباب القرية. ويحكون في السياسة. ويخيم الكرب. وانسى قمر البارحة الذي غنت له فيروز: «نحنا والقمر جيران، بيتو فوق تلالنا». كل ليلة تقريباً يخرج من بيته خلف التلة ويبدأ جولته سارحاً مثل امير يحمل مصباحاً نبيلاً.