فدرالية العراق: حل سياسي أم مأزق دستوري

TT

رغم ما يبدو من ان الاسلام من العقد الخلافية في الدستور، إلا اني اظن بأن الخلاف هو في حدود الصياغات وليس الجوهر، اذ حتى التحالف الكردستاني الذي يبدو واقفا ضد موضوعة الاسلام، إلا أنه واقع يمثل شعبا في غالبيته اكثر تشددا اسلاميا من باقي اجزاء العراق، في حين ترمي القوى التي تصر على تثبيت نص يمنع سن قانون يتناقض مع ثوابت الاسلام، الى وضع ضمانة وحصانة تهدف الى تطويق الاعراض الجانبية للديمقراطية، والتي درج منتقدوها او المتخوفون منها ان يروا بأن من الممكن ان تكون وسيلة لتقنين (الاباحية) ومناقضة القيم.

واذا افترضنا بأن سلطة التشريع ستكون للبرلمانات التي هي وفقا للنظام الديمقراطي تنبثق عن الشعب، فالممثلون بالقطع لن يجرؤوا على تشريع قوانين ضد قيم الشعب الذي انتخبهم، فيما لن يجتمع هذا الشعب بالقطع ايضا على «ضلالة». ثم اذا افترضنا العكس، وتحول الشعب ـ لا سمح الله ـ الى الإباحية وممارسة التهتك الاخلاقي، فإنه لن يكون بحاجة الى نص دستوري او قانوني لكي يشرع في تحرره هذا. في دساتير 44 بلدا في العالم، يشكل فيها المسلمون الاغلبية، ويعيش فيها اكثر من نصف سكان العالم الاسلامي، لا هي جمهوريات اسلامية، ولا دساتيرها اعلنت بأن دين الدولة فيها الاسلام، لكن اسلامهم لم يختل، ومع ذلك، يظل في الحالة العراقية، تثبيت مسألة الاسلام ضروريا لما يشكله من اطار جامع وناظم للغالبية العظمى من مكونات الشعب العراقي، وهوية مشتركة لهم اكثر من كونه لوقاية الايمان.

لذا تظل المشكلة الخلافية الاهم في الدستور هي مسألة الفدرالية، التي هنالك تسليم بها بالنسبة لإقليم كردستان، إلا ان الخلاف حول حجمها وحدودها وصلاحياتها ومستقبلها. ومن هنا فمن يتقاطع مع الكرد في حجم مطالبهم، يرى بأنها اقرب الى الكونفدرالية، بل هي مرحلة اولى نحو الاستقلال تنتظر تهيئة المقومات الاقتصادية لها، بإلحاق كركوك النفطية بها، وتترقب المتغيرات الاقليمية المستقبلية بانتظار انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، مما يجعلها مقيدة ومنضبطة بمعاييره وسياسته.

وخيار الفدرالية هذا يراد له ان ينص عليه في الدستور، وان تكون هنالك امكانية للأخذ به من قبل اي ثلاث محافظات او اكثر، حيث ان المتحمسين لهذا الخيار، فضلا عن دواعي الكفاءة وحسن الاداء، وأنها نموذج متقدم في ادارة الدول، فإنهم لا ينسون ان يستدلوا بالحيف والظلم التاريخي الذي اصابهم وهيمنة المركز على شؤونهم، وأيضا يجدون فيها ضمانة ضد عودة الدكتاتوريات، اما الرافضون فمنهم من يرون بانها صيغة تجميلية للتقسيم وأنها ستكون مجالا لنفوذ دول الجوار، فيما صرح الرافضون بمخاوفهم بأن تظل لهم الصحراء، اذ ان النفط سيكون في اقليم الجنوب وكركوك، لهذا فالخلاف في حقيقته ليس على الفدرالية، إنما على الثروات، رغم ما يحاول البعض بأن يغلفه بأغطية سياسية ودواع وطنية، وهذا الهاجس يظل مشروعا، اذ ان كل الحروب والنزاعات نشبت على الثروات.

الرافضون للمشاريع الفدرالية هم تحديدا المقاطعون للانتخابات، ويقف وراءهم المحيط العربي الذي يخشى على وحدة العراق وهويته العروبية، وعلى وقوعه فريسة للنفوذ الايراني، كلام جميل يتفق معه كثير من ابناء الشعب العراقي، ويشارك في المخاوف ايضا، لكن بعد ذهاب غطاء الديكتاتورية، فإنك لن تستطيع في العراق ان تقسر احدا ضد ارادته، وها هي المفاوضات مع الاكراد طالت وتطول في كل مرة، ولو قدر لها ان تطول لسنين فإنك لا تملك خيارا ضد ارادتهم، لهذا يصبح السؤال المهم هو: ما المطلوب لإبقاء العراق موحدا؟، الجواب ببساطة يتركز في شقين: الاول، جعل وحدة العراق مصلحة للجميع. والثاني، اتفاق اطرافه ومكوناته على مشروع وطني. اذ لا يكفي ان نضع الضوابط الدستورية ضد الانفصال، بل الاهم ان يشعر الكردي ان مصلحته هي البقاء ضمن العراق، وان يكون هناك قبول وتبنّ للمتغيرات السياسية الجديدة، حيث ان الذي جرى عند سقوط النظام في نيسان 2003، هو ان جزءا من العراق اختار المقاومة او خيار العنف ورفض عمليا المشروع السياسي، في حين ان اجزاء العراق الاخرى فضلت التهدئة والسلم والاندماج في العملية السياسية.

ان من يقولون بالفدرالية ويسبّبون ذلك بالمشكل الامني، يريدون ان يحصروا خيار العنف وتبعاته بمن تبناه، وان تنأى المناطق التي فضلت السلم بنفسها عن ذلك لتشرع في التنمية، كما هو جار في اقليم كردستان، اذ الى متى تظل البصرة مثلا التي تنتج 80% من نفط العراق المصدر، وتلتقي عندها انهره وهي عطشى لماء صالح للشرب، والبصرة رئة العراق البحرية الوحيدة مصابة بذات الرئة بسبب الفقر والحرمان، وهل من العدل ان يرسل الجنوب عوائده من النفط لمن درج على تدمير انابيب النفط وإشعال الحرائق فيها؟.

لذا، فإن الذين يرفضون الفدراليات يجب ان لا يكتفوا بالرفض، اذ يكفي اضاعة سنتين ونصف السنة من عمر العراق وثرواته ودماء ابنائه. ان من يتصدى ويدعي تمثيل من قاطعوا الانتخابات عليه ان يكون كذلك على الارض وليس في الفضائيات وكواليس المساومات السياسية، اذ نذكر عندما قرر السيد مقتدى الصدر، ترك خيار القوة اوقف العمليات في طول العراق وعرضه خلال ساعات، وفي اقليم كردستان لم تطلق اطلاقة واحدة كون قادته اختاروا العملية السياسية وانتظموا فيها.