يحدث في مصر الآن

TT

لا يمكن لما يحدث في مصر الان ان يقع الا في مصر فقط، بخصوصيات عبقريات الأمة التاريخية والجغرافية والإنسانية. ادارة الحملة الانتخابية الرئاسية، بالمقاييس المصرية «ثورة» التعبير المتاح بالعربية، رغم انها ظاهرة غريبة عن حضارة التسعين قرنا.

ما يحدث في مصر الان يحيي ذكريات الوحدة الوطنية لثورة سعد باشا عام 1919، ونهضة محمد علي باشا وإنجازات كوكبة النور والمعرفة بريادة استاذ الجيل احمد لطفي السيد باشا.

صحيح ان مصر الحديثة، ومنذ تأسيس البرلمان في منتصف القرن 19 وحتى انقلاب 1952، تنتخب الحكومة بالأغلبية، عندما يكلف الملك زعيم الحزب الفائز بتشكيل الوزارة، الا انها المرة الأولى في عمر الدولة (7000 عام) حيث تنتخب الأمة رأس الدولة مباشرة. تبدأ نهضات مصر المتكررة بمرحلة اعادة اكتشاف الذات والبحث في الوجدان القومي لتنظيف المعدن الأصيل للامة المصرية من شوائب ثقافات دخيلة وايديولوجيات فرضها غرباء غزاة. ورغم قوة بعض الثقافات والأيديلوجيات في مناطق اخرى، فقد اثبت التاريخ ان بقاءها في مصر مؤقت كصدأ يتساقط عند اول طرقة، ليكشف بريق جوهر لم يتغير لتسعة الاف عام.

دخل الغزاة مصر اربع مرات في 7000 عام (وتحضر من بقي منهم بتمصره)، فاضطرت الأمة لتغيير لغتها مرتين، ودينها الرسمي مرتين. تمصرت اللغة (تجاوزت اللهجة الى التعبيرات والتركيبة والقواعد) وتمصر الدين بطابع وخصوصيات مصرية.

الأمم العظيمة، كمصر، محافظة لا تميل للتغيير وتفضل الاستقرار، ولذا فإن التعديل الدستوري الجديد لانتخاب رئيس الدولة بين عدة مرشحين متنافسين، ليس فقط «ثورة» بالمقاييس المصرية، وإنما ايضا له طعم مصري خاص به.

هناك اتفاق عام حضاري غير مكتوب على الولاء التام لمصر الام والعمل في اطار الدولة، بينما تجد التيارات التابعة لأيديولوجيات دخيلة، مهمشة وهدفا لسخرية الشعب ونكاته.

خصصت الدولة الأم ملايين الجنيهات كمنحة للمرشحين بحد اقصى 10ملايين لأنفاق المرشح ـ لمنافسة رئيس الدولة الحالي، حسني مبارك مرشح حزب الأغلبية البرلمانية. اصبح تمويل مصر الأم لأبنائها مصدر فكاهة، كخصوصية مصرية تجعل من أي ظاهرة او شخصية او رمز، بما فيها المقدسات، هدفا مشروعا لنكات «ابن البلد» الذي يتهم البعض بأنهم ترشحوا للحصول على منحة الدولة، ولا علاقة لهم بالسياسة.

خذ مثلا الأهرام، كصحيفة شبه رسمية، تصدر ملحق الأنتخابات، بموقف حيادي من المرشحين العشرة، كمنبر يعرض برامجهم، حتى الساذجة والمضحكة منها.

المضحك هو الفهم القاصر للإعلام الأجنبي (أي غير المصري سواء بالعربية او لغات اخرى) لما يحدث في مصر الان. الصحف القومجية العربجية (بتسكين الباء) والفضائيات العنترية «اياها» تلتقط النقاط المضيئة في الانتخابات المصرية لتحاول، بسذاجة، الضحك على الناس للنيل من مصر. ومن يفهم الخصوصيات الحضارية للأمة المصرية يدرك انها تدير امورها من عيد شم النسيم، ووفاء النيل، مرورا بفرح بنت العمدة، الى انتخابات الرئاسة، على الطريقة المصرية. وعندما اتهم مرشح حزب الغد، الحزب الوطني بمحاولة افساد حملته في الصعيد، اسرع مأمور المركز بالتحقيق، وتوفير حراسة بوليس ليعقد الغد مؤتمرا صحافيا مفتوحا. وعندما قدم بلاغ اتهام ضد حسني مبارك، قيدت النيابة البلاغ وأمرت بالتحقيق فيه. وليتفضل محررو الصحف القومجية العربجية والفضائيات باخبارنا عن بلد قومجي ثورجي واحد يقيد فيه مرشح معارض بلاغ ضد الرئيس؟

والجدل الدائر، واتهامات المعارضة واحتجاج قضاة مصريين، يراه الحاسدون لحضارة مصر منظور خبرتهم المشوهة مع انظمة «ثورجية» تدعم منابرهم، فيعتبرون معارضة المصريين لبعضهم غسيلا قذرا غافلين عن انها تعبير عن التعددية في حضن مصر الأم، وعن استقلال القضاء المصري، وتأكيد لتاريخه المستقل المشرف. او ليس القانونيون المصريون هم رواد نهضة مصر منذ ان تولت مدرسة الحقوق ايام مصطفى كامل باشا ملف قضية الحرية؟

النكتة الأخرى هى تكرار الحاسدين لتعبير «الضغوط على مصر» مما دفع مسؤولا مصريا في مقابلة تلفزيونية لعرض منح جائزة كبرى لمن يدله على «اشارة واحدة من عواصم اوروبية او أميركا تفسر كضغوط على مصر في الحملة الانتخابية».

وسواء كان المصري «أفندي» في الجامعة او ماسح أحذية، فلديه من الوعي والتراكم الحضاري ما يمكنه من فرز مرشح مسيرة نهضة مصر ممن يريد ان يبيعه الترام. ضحك الصعايدة في اعماق الريف من مرشحين يدعون ليبرالية التعددية ومساواة المرأة، ثم حولوا ندواتهم الى «حلقات ذكر» المشعوذين، حيث استبدلوا مناقشة البرنامج السياسي للحزب بتلاوة القرآن الكريم. وفهم الصعايدة اللعبة شبه الأخوانية حيث قال مواطن صعيدي لصحيفة محلية «سيادة المرشح معندوش اجابات على اسئلتنا وبيسكتنا بقراءة القران، ويقول سلامو عليكم ويروح، ابقى قابلني لو حد منه جاب صوت واحد!».

ويتندر المصريون على هرولة زعماء احزاب تدعي العلمانية الليبرالية، للحصول على تأييد جماعة الأخوان المسلمين المحظورة، الملطخ تاريخها، منذ الثلاثينات، بدم المصريين الأبرياء، على يد مؤسسيهم، او من ولدوا من تحت عباءتهم. فالمصري الذي يكره العنف ورموز الفاشية الشمولية، سواء كان الرمز قميصا اسود او حجابا، يكشف المنافق من اول لقاء.

كان الرئيس مبارك المرشح الوحيد الذي ترفع عن لقاء الأخوان، رغم طلب مرشدهم، حسب مصادر دبلوماسية غربية وشرق اوسطية في القاهرة. اشارات مبارك، تضيف المصادر، واضحة بفصل الدين عن السياسة، ومنع الجماعة المحظورة من خداع الناس بتقديم تعريف غير واضح للاسلام كحل شمولي، بدلا مناقشة البرامج السياسية لمواجهة احتياجات الناخب. وحسب معلوماتي، حاول الأخوان، رغم انكارهم مقايضة مساعدة الرئيس مبارك لهم في الانتخابات البرلمانية المقبلة بتأييده في انتخابات الرئاسة. وكأن الرجل المحبوب جماهيريا، والذي بدأ التقليد الجديد، ويتسع صدره لانتقادات صحافية، بلغت، في قول دبلوماسي غربي كبير، حد تجاوز قانون التشهير والذم، في حاجة الى دعم جماعة غير شرعية!

ميل المصري للاستقرار، ورفضه للتوتر، خاصة في فترات البحث في الوجدان، تشير الى فوز الرئيس مبارك بأغلبية مريحة. فمثلا الحزب القومي المصري، حزب مصر الأم تحت التأسيس، الذي يقود اليوم حركة العودة للجذور الحضارية، وقطع الصلة بمصادر التخلف، وإظهار الخصوصيات الحضارية امتدادا لفلسفة استاذ الجيل احمد لطفي السيد، يضع في مكاتبه ومقره صور الرئيس مبارك وبرنامج حزبه الوطني.

تاريخ مصر يشير الى ان النهضات ابتداء من طرد احمس الدخلاء، مرورا بتوحيد مينا لوادي النيل وبناء خوفو للهرم، ورمسيس للنهضة، وفلسفة اخناتون للأيمان، حتى تأسيس طلعت حرب لبنك مصر، تأتي كلها من قمة الهرم.

فخطاب المصري الفصيح، لفرعون، بأدب جم، ومنطق حضاري، دون ثورة او عصيان او دعم اجنبي، ومن قلبه دون ثورجية الغرباء، وضع اسس حقوق المواطنة السياسية، قبل الماجنا كارتا بخمسة آلاف عام، وهذا يتجاوز دور المصري من «الحقوق» الى واجبه التاريخي في تطوير الحضارة الإنسانية.