الإرهاب .. بين رفض التبرير والحاجة إلى التفسير

TT

مع عودة الإرهاب الأسود ثانية ليضرب ويروع الآمنين يجد المرء نفسه أمام منعطفين أو بالأحرى خطابين لظاهرة الإرهاب ، الأول خطاب الرفض وهو الخطاب التبريري ، بينما الحاجة كل الحاجة إلى خطاب تفسيري وتقريري، لتأكيد حالة قائمة وقادمة عن طاعون العصر الجديد، فيما لا يعني التفسير بحال من الأحوال إيجاد ذرائع للتبرير، فالإرهاب في أصله نتاج طبيعي لأعمال بشرية لا تبرر القيام بالهجمات على المدنيين في أي بقعة على الأرض لكنها تفسر لماذا في اضعف الأحوال ؟

ومعنى ذلك انه في طريقنا لمواجهة الإرهاب المرشح لأن يصبح الحرب الكونية الرابعة، يتحتم البحث عن تلك العلل، حتى تستطيع الإنسانية مداواة المعلول، وإلا فان الأمر يتحول إلى مأساة أو ملهاة إغريقية بين ضربات انتقامية أمنية وردود فعل إرهابية بأبشع صورة على الجانب الآخر .

يلزم القول كذلك إن الحاجة إلى تشخيص «عالمي» وليس «محلي» فقط للأزمة الكوسمولوجية العاصفة قد باتت تدق على الأبواب بشدة، فيما أصبحت الحاجة لمعاهدة دولية لمكافحة الإرهاب أمرا لا مناص منه ، بعد أن رفضت العديد من الدول الكبرى فكرة المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب خلال السنوات الماضية .

وفي هذه القراءة التفسيرية لبعض المشاهد يمكننا التنبؤ بان قادمات الأيام لا تحمل إلا عواصف وأعاصير، إذا بقي الحال كما هو عليه، من محاولة هش الذباب بمطرقة فولاذية ذلك لان الذي سيحدث هو أن ينجو الذباب من ضربات المطرقة الغاضبة والطائشة، في حين تصبح الجدران والحوائط هي التي ستتأثر فتصبح مثل فتات الجبن السويسري الشهير، وفي النهاية سنجد تلك الكائنات الطائرة سعيدة تضحك في الجو كمن حقق النصر في معركة.

ثلاثة مشاهد فقط نتوقف أمامها في محاولة لاستجلاء الحاجة إلى التفسير، واكرر ليس التبرير بالمطلق.

الأول للمفكر الفرنسي والمحلل الاستراتيجي الفرنسي الشهير باسكال يونيفاس في أحدث كتبه «نحو الحرب العالمية الرابعة» ، ويقصد بها الإرهاب العالمي وفيه يشير إشارة واضحة إلى أن الصراع الجاري حاليا بين الغرب والعالم الإسلامي، أو بين إدارة بوش وجماعة «القاعدة» هو صراع فكري يورث إلى أجيال، والدليل على ذلك ما حدث في لندن، وان بذار القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي تحمل على العداوة والبغضاء لان الوضع الحالي مجاف للعدل ومناف للحق .

يقول يونيفاس: «لن تربحوا هذه المعركة إلا إذا حاربتم أسباب الإرهاب وليس الإرهاب فقط ، فالإرهاب لم ينزل من السماء وإنما هو نابع من الأرض ومن مشاكل واقعية محسوسة، وأول شيء ينبغي أن تفعلوه لكي تنجحوا في القضاء على الإرهاب، أو في تحجيمه على الأقل، هو أن تحلوا القضية الفلسطينية بشيء من الإنسانية والعدل، أما إذا استمررتم على سياسة بوش ـ شارون المغامرة والمتهورة ، فسوف تزيدون الإرهاب اشتعالا وسوف تغذونه بعناصر جديدة ومدد لا ينفد وسوف يشكركم ابن لادن والزرقاوي كثيرا .

وهنا اذكر بان يونيفاس فرنسي من أحفاد بلاد الغال وليس أصوليا عربيا بل كاثوليكي أوروبي.

المشهد الثاني هو التقرير المفصل الذي صدر عن المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية تحت عنوان «المملكة المتحدة معرضة للخطر» والذي أعده بول ولكنسون رئيس مركز أبحاث الإرهاب في جامعة سان اندروز باسكوتلندا وفرانك جريجوري من جامعة ساوثامبتون في بريطانيا، ويعتبر هذا المعهد من ابرز مراكز الأبحاث في العالم، ومن أكثرها رصانة وهو وثيق الصلة بالحكومة البريطانية وإنْ كان غير تابع لها.

يقول التقرير إن التحالف الوثيق بين بريطانيا والولايات المتحدة جعل الأراضي البريطانية هدفا أكثر إغراء لهجمات المتطرفين وبصورة غير معهودة من قبل، وان التأييد البريطاني الكامل لسياسات الإدارة الأميركية في ما يتعلق بالحرب ضد أفغانستان وغزو العراق أعطى قوة دفع لأنشطة «القاعدة» في مجالات تجنيد أعضاء جدد وجمع التبرعات المالية والحرب الدعائية ضد العرب.

أما عمدة لندن، كين ليفنجستون، فقد وثق تلك الرؤية بتصريحه «إن سياسة الحكومة البريطانية لها دورها في إذكاء العمليات الإرهابية التي شهدتها البلاد». فيما المشهد الثالث أميركي لا غش فيه حيث اظهر استطلاع حديث للرأي تصاعد أعداد الأميركيين الذين يعتقدون بأن الحرب على العراق تقوض جهود مكافحة الإرهاب وتزيد من مخاطر وقوع هجمات إرهابية جديدة. وجاء في الاستطلاع الذي أجراه مركز «بيو» للأبحاث أن 47 % من الأميركيين يعتقدون بأن الحرب على العراق قوضت جهود مكافحة الإرهاب. كما اظهر الاستطلاع أن 45 % منهم أكدوا في أعقاب تفجيرات لندن الأولى أن الحرب على العراق تزيد من مخاطر وقوع هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة مقارنة بـ 36 % في الخريف الماضي .

ولا يمكننا بحال أن نغفل تصريحات مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA بورتر غوس أمام لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ من أن «الأصوليين المتطرفين يستغلون نزاع العراق لتجنيد جهاديين جدد معادين لأميركا وهي نتيجة متقدمة على السبب ، فالاحتلال جعل العراق مركزا للإرهاب العالمي وليس العكس».

وإذا كان البعض، ممن يرون في أنفسهم طبقة «المثقفين الليبراليين الجدد»، يذهبون إلى أن التفسير هو الوجه الآخر لعملة التبرير، فماذا يقولون في أحدث وثيقة صدرت عن حاضرة الفاتيكان وتؤكد على ما نذهب إليه ؟

ففي وثيقة «عقيدة الكنيسة الاجتماعية» التي صدرت في الخريف الماضي والتي تعد امتدادا للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، تعتبر الكنيسة الكاثوليكية أن التعاون الدولي لمناهضة الإرهاب لا يمكن حصره فقط في العمليات القمعية والعقابية بل بالبحث عن الأسباب التي كانت وراء الهجمات الإرهابية لتلافيها من اجل تحقيق السلام في العالم بأسره .

كما أن الوثيقة ترفع عن الإسلام والمسلمين تهمة وثيقة لصيقة إذ تقول «إن الصراع ضد الإرهاب يقوم على احترام حقوق الإنسان ومبادئ دولة القانون، ومن هنا واجب تحديد المسؤولية بدقة لان التهمة الجنائية شخصية وفردية ولا يمكن رميها على الديانات والأمم والقوميات التي ينتمي إليها الإرهابيون».

وحسنا فعل المجلس الإسلامي العالمي في القاهرة بدعوة 82 منظمة إسلامية عالمية أعضاء في المجلس العالمي للدعوة والإغاثة إلى تضافر جهود المجتمع الدولي لعلاج أسباب ودوافع الإرهاب في مؤتمر يعقده المجلس بالقاهرة الشهر المقبل.

نعم، انه لا مكان ولا زمان لتبرير الإرهاب لكن الحال أن هذا نصف الحقيقة والنصف الآخر هو أن للظاهرة الإرهابية أسبابا تنبغي معالجتها، وان الاعتراف بهذه الأسباب لا يعني تبرير الإرهاب إطلاقا، ذلك لان صراع الحقائق في أعلى مراحله اشد وأقوى من الصراع العسكري والسياسي، وان صراعات مثل الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين وبقية الأرض اللبنانية المحتلة (مزارع شبعا) إضافة إلى مطالب التاميل بالاستقلال عن سريلانكا ومطالب الأكراد بالاستقلال عن تركيا والاحتلال الروسي للشيشان والوجود الأميركي في الجزيرة العربية لهي كفيلة بان تفقد العالم أمنة وسلامه، ما يجعل الحاجة إلى اجتثاث الجذور ومعالجة المرض قبل مداواة العرض أمر واجب.

جل ما أخشاه أن يصدق قول كلود ليفي شتراوس، عالم الانثروبولوجيا الألماني الأشهر، عن أن الغرب ضيع على نفسه فكرة أو فرصة كان يمكن من خلالها أن يثري نفسه من خلال المثاقفة مع الحضارات الأخرى ، وعوضا عن ذلك لجأ إلى الحيل السياسية تارة، والى نظرية المطارق وفتات الجبن السويسري تارة أخرى، من دون أن يكلف نفسه عناء التفسير الذي يغني في الأصل عن التبرير.

* كاتب مصري