اكنسهم يا بوش.. هذا طريق استعادة العافية.. وتحسين الصورة

TT

الحمد لله: لم يستطع أحد من غلاة المسلمين، أن يعلن مسؤوليته عن اعصار كاترينا فيزعم أنه هو الذي صنعه وأطلقه وأمره بتدمير ولايات أمريكية، فهذا الزعم مدفوع منقوض ملغى بقول الله: «ليس لك من الأمر شيء».. والحمد لله: لم يْصدُق كلام أحد من غلاة أمريكا في الزعم بأن أمريكا مطلقة المشيئة: لا قوة فوق قوتها في هذا الكون، وأنها تدير الكون من دون الله، فهذا الزعم مدفوع منقوض ملغى بقول الله: «فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة».

وهذه النقطة ذات صلة بـ «التفسيرات» التي أعقبت ضربات اعصار كاترينا لولايات أمريكية. فقد سارع يهود ونصارى ومسلمون الى تقديم تفسيرات دينية لهذا الحدث: فأنصار اسرائيل في الولايات المتحدة قالوا: ان سبب الاعصار هو (تآمر) الادارة الأمريكية على اخراج المستوطنين اليهود من غزة. وقد لخص الحاخام اليهودي عوفاديا يوسف هذا الاتجاه فقال: «إن الإله عاقب بوش وأمريكا بالاعصار المدمر، لان امريكا دعمت جلاء اليهود من غزة، ولأن نيو اورليانز هلكت بسبب ان كثيرا من الناس هناك يعصون تعاليم التوراة».. وأما عدد من الكنائس والمنظمات المسيحية ففسر الحدث على النحو التالي: ان الله حكم على نيو أورليانز بسبب خطيئة اهدار دماء الابرياء عن طريق الاجهاض، فالله يعاقب على الآثام القومية بالكوارث القومية، وان الاعصار المهلك قد وصل في نفس الوقت الذي كان فيه 125 الفا من الشواذ ينظمون حفلا خاصا بهم في أحد شوارع نيو زورليانز.. وأما عدد من المسلمين فقد فسر الحدث بأنه عقاب الهي لأمريكا على ما تفعله بالمسلمين في افغانستان والعراق وغيرهما.

ومع ان هذا النوع من التفسير ينطوي على اغراء وجذب واثارة، فإننا نختار (موضوع التفسير السياسي للحدث).

والتفسير السياسي يقضي بطرح (رؤية سياسية متماسكة) للشأن الأمريكي ـ الداخلي والخارجي ـ في السنوات الخمس الأخيرة، ـ على وجه التخصيص ـ وشيء طبيعي ومشروع: ان نهتم بذلك، فالولايات المتحدة تتمدد في كل مكان، وتؤثر في العالم بما تقرر وتفعل، سواء كان هذا التأثير: سياسياً أو اقتصاديا أو أمنيا أو ثقافيا، أو حاضرا، أو مستقبلا.. وبقدر تأثيرك يكون الاهتمام بك منذ عام 2001 ـ حيث وليت الادارة الحالية مقاليد الولايات المتحدة ـ توالت الظواهر الغربية، والأزمات الكبرى التي تلد مشكلات جديدة في حركة تناسل لا تنقطع على الصعيدين: الداخلي والخارجي. بعد مجيء الادارة الراهنة بأشهر ثمانية: وقع الحدث المزلزل الفظيع في نيويورك وواشنطن: حدث 11 سبتمبر 2001 .. وهو حدث لا يزال تكتنفه الألغاز على الرغم من مئات التقارير الرسمية التي تحدثت عنه. وعلى الرغم من اعترافات المحرضين على الفعل بأنهم هم الذين كانوا وراءه. وآخر هذه الألغاز أ ـ تهديد جورج تينينت ـ مدير الاستخبارات الأمريكية السابق ـ بأنه سيكشف أسرارا وحقائق غير معروفة عن 11 سبتمبر وحرب العراق ب ـ وثائق صدرت عن وزارة الدفاع الأمريكية تؤكد وتوثق: حقيقة أنها تعرفت على محمد عطا ـ كإرهابي ـ قبل 11 سبتمبر بعام كامل!!

تأسيسا على هذا الحدث، وانبعاثا منه: قادت الإدارة الأمريكية (حربا على الارهاب).. ومن حق كل أحد نزل عليه عدوان أن يدفع عن نفسه هذا العدوان بشجاعة وثبات. بيد انه حصل (انحراف كبير بالحرب على الارهاب)، ومن أقوى وأظهر أسباب الانحراف: دخول أجندة (غير أمريكية) على الخط بهدف تحقيق أحد من غير أمريكية من خلال فرصة تاريخية نادرة!!.. أهداف مؤيد بدلائل وقرائن بالغة القوة.. فقد أجرى ـ مثلا ـ مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن: استطلاعات موسعة للرأي العام الأوربي ـ أي في القارة الرديف والحليف التاريخي لامريكا ـ. فكانت نتيجة الاستطلاع هي: ان للاوربيين موقفا نقديا تجاه الادارة الامريكية الحالية، وتجاه ما يعتقدون انه (نهج احادي) يمارسه الطرف الامريكي وحده في مجال السياسة الخارجية ومكافحة الارهاب. فنسبة 85 في المئة من الالمان. و80 في المئة من الفرنسيين. و73 في المئة من البريطانيين. و68 في المئة من الايطاليين يعتقدون ان الولايات المتحدة تنطلق من مصلحتها الخاصة في الحرب على الارهاب.. وللخطأ الكبير نتائجه المروعة بطبيعة الحال. فالانحراف الكبير بالحرب على الارهاب، كان سببا قويا في زيادة معدلات الارهاب بنسبة 286 في المئة.

وهذه خطيئة في السياسة الامريكية من الجرم في حق امريكا نفسها: الا تكاشف بها.

ثم جاءت الحرب على العراق، وهي حرب اقترنت بخطيئتين سياسيتين او استراتيجيتين: خطيئة تأسيس الحرب كلها على (كذبة) اسلحة الدمار الشامل في العراق، وهي كذبة توالت مئات الادلة والوقائع ـ الامريكية وغير الامريكية ـ على انها كذبة.. ومن السائغ ـ قانونيا وسياسيا واعلاميا وتاريخيا ـ: ان تسمى هذه الكذبة الكبرى بـ (الكذبة الدامية) التي ادمت الاميركيين، كما ادمت العراقيين.. والخطيئة الثانية في الحرب على العراق هي: الادارة السيئة لهذا البلد بعد الاحتلال، فالتنمية زادت سوءا، والأمن تردى الى القاع، والخدمات انحدرت الى الارض السابعة، ووحدة البلد تتعرض للتفتت ـ واقعيا ودستوريا ـ.. وتغير السجان (صدام حسين) ولم يتغير السجن ولا الجلادون المباشرون (سجن ابو غريب مثلا).. وليس هناك عاقل يمكن ان يجد علاقة بين مزاعم (تحرير) العراق وبين سرقة الوثائق العراقية. لقد تؤكد: ان القوات الاميركية سطت على مخطوطات عراقية جد نادرة. ومن اهمها: لفائف لأسفار التوراة واخرجتها من العراق لتكون بين يدي من يهمه الأمر!!

ثم قرعت امريكا ـ على المستوى الداخلي ـ قارعة اعصار كاترينا. فهذا الاعصار (حدث كوني) بلا ريب. لا تسأل عنه الادارة الامريكية من حيث هو: وانما تسأل عن كيفية التعامل معه: قبلا وفي الاثناء وبعدا.

وحقيقة الامر: ان هذه القارعة الكونية قد رفعت الستر والحجب عن نقائص وفجوات وعاهات مرعبة: فقد كشفت هذه الكارثة: الحجم الضخم للفقر الخاص بالولايات المتحدة المنكوبة، والفقر العام في عموم امريكا (13 مليون طفل امريكي يعيشون تحت خط الفقر) وكشفت المستوى المتردي للخدمات الاجتماعية والصحية والكهربائية والاسكانية والبيئية والانقاذية.. وكشفت (العجز الاداري) الذي بدا مشهده البائس وكأنه من بنغلادش او تشاد (وهما دولتان مسلمتان بالمناسبة!!!).. وكشفت الانقسام الطبقي الحاد.. وكشفت الآثار المفزعة التي خلفها الاعصار.. فقد اقفل711 منصة وبئر نفطية في خليج المكسيك.. وتوقف 88% من انتاج النفط في المنطقة نفسها.. وجرى ترحيل 400 ألف عامل الى تيه البطالة.. وموت الالوف من الناس، وجرح عشرات الألوف، وتشريد مئات الالوف.. وشيوع التلوث القاتل. وقد قدرت الخسائر الاقتصادية بأكثر من مئة مليار دولار.

ما العلاقة بين ذلك كله وبين السياسة الخارجية الامريكية؟.. من المسلمات العقلانية والبراجماتية في نظريات العلاقات الدولية والدساتير الوطنية، والسياسة الخارجية لكل دولة: ان يكون مقياس النجاح للسياسة الخارجية هو (خدمة المصالح الوطنية)، وليس العكس، أي ان يضحى بالمصلحة الوطنية في سبيل أوهام أو أحلام أو ايدلوجيات خارجية.. وينصح بعض المفكرين في هذا المجال بـ (جرعات أنانية مزيدة) للمحافظة على مسلّمة: (سياسة خارجية من أجل المصلحة الوطنية) السياسية والاقتصادية والأمنية.. فهل استمسكت الادارة الامريكية بهذه المسلمة؟.. الحقائق والوقائع على الارض تقول.. لا.. وتفسير لا هذه يمثل في تبني أجندة أخرى قلت فيها حظوظ المصلحة الامريكية البحتة.. ويقال أو يتردد كثيرا ان سياسة الغلاة ـ بتعبيرنا ـ أو سياسة المحافظين الجدد) ـ بالتعبير الملطف السائد ـ: وصلت بالعراق الى ما هو عليه الآن من سوء وكرب عام وخاصة بيد ان الاخطر من ذلك هو : ان تفكير هؤلاء قد وصل بامريكا نفسها الى (قاع) لم تصله من قبل، ولا في اثناء حرب فيتنام.. فالحريات المدنية قيدت.. والاقتصاد انتكس.. والسمعة أو المصداقية الخارجية توشك ان تبلغ درجة الصفر أو فوقه بقليل.. مثلا في آخر استطلاع للرأي عن الشعوب الاوربية، ظهرت نتائجه في الاسبوع الماضي، يقول 72 في المئة من الاوربيين ان الرئيس الامريكي فقد شعبيته لديهم بسبب السياسة الخارجية الفاشلة للولايات المتحدة التي اثارت العداء ضد الغرب كله. كما عبر 60 في المئة منهم عن أسفهم لاستمرار بوش في الحكم!!.. ثم انكشفت ـ سافرة مغلظة ـ خطيئة (اهمال) الاوضاع الداخلية من حيث تقديم المغامرات الخارجية عليها: في الاهتمام والترتيب والانفاق.

ما السبب الدفين وراء ذلك كله؟.. وما علة العلل؟.. في الامثال الشعبية ذات الحكمة الفطرية يقولون (ان نجارا يحرص على اصلاح ابواب الناس في حين ان باب بيته مكسور خرب). وقد يكون وراء هذا السلوك: سذاجة وغفلة وغباوة في ترتيب الاسبقيات.. ومع نجاعة المثل، فإن الحالة الامريكية اعقد من ان تفسر بالغفلة عن مصلحة الذات.. وهنا يتكرر السؤال: ما السبب الدفين؟.. السبب الحقيقي هو: ان الولايات المتحدة قد (اختطفت)، وان امكاناتها الكبرى قد سخرت فيما يضرها، وفيما ينفع آخرين.. ولقد علم هؤلاء الآخرون من الغلاة أو المحافظين الجدد: أن أوسع الصلاحيات الدستورية للرئيس الامريكي هي في السياسة الخارجية، لأن السياسات الداخلية اكثر قيودا فليكن اللعب الاكبر ـ بمصائر امريكا ـ في الساحة الخارجية التي تتسع لاجندتهم وتحقق اهدافهم.. ولقد تفطن الدبلوماسي الامريكي ريتشارد هولبورك لهذا اللعب المميت بمصائر امريكا فقال: «بعض اعضاء الادارة الحالية يتصرفون بقصر نظر. فهل من العقل والضمير والأمن الدولي ان يصبح العالم كله ضحية لحفنة من الناس لا يكترثون باستقرار العالم ولا تهمهم مصلحة الولايات المتحدة نفسها؟

لقد تعب الآباء الامريكيون المؤسسون في بناء امريكا.. فهل تهدم البناء هذه الحفنة المتسلطة؟ قول المؤرخ الروماني القديم تاستس «ان جماعة من القادة العظام الملهمين ينشؤون الدول فتجيء جماعة صغيرة فاسدة مفسدة فتحطم هذه الدول».

ان هذا ظرف تاريخي فاصل بالنسبة لامريكا.. والخيارات ليست كثيرة بين يدي الرئيس جورج بوش بل هي ثلاثة:

1 ـ ان يستقيل بسبب كثرة الازمات وتعقدها. وهذا ليس حلا وانما هو ازمة جديدة.. ثم إن (الاستقالات) ليست من تقاليد الرئاسة الاميركية.

2 ـ ان تظل امريكا «متوحلة» داخليا وخارجيا. مع احتمالات مؤكدة بأن الارجل ستزداد غوصا في مزيد من الوحل المفتوح المصادر دوما.

3 ـ ان يعزم بوش ـ في وثبة تاريخية ـ على كنس جميع الذين تسببوا في هذه الازمات لامريكا. والقسوة عليها.. وهذا هو الخيار الاعقل والواقعي.

نقول هذا بباعث النصح الصادق الواجب لا بدافع الشماتة. فالضمير والحال لا يتسعان لهذه الصغائر. ثم ان الشماتة « وهي السرور بأحزان الآخرين» نقيض لأخلاق البر والاحسان الى الخلق والرحمة بهم. و«لا يرحم الله من لا يرحم الناس» كما قال نبي الاسلام.