رواية من شاهد عيان : نهضة بسطاء مصر

TT

صابر الحجار، 38 عاما ، يحمل بكالوريوس تجارة ، بتشجيع ومساعدة ضابط الكتيبة «المتنور، ابن العيلة، الأنسان الطيب» اثناء تطوعه، بالإعدادية فقط، في القوات الجوية المصرية، فدرس للتوجيهية ثم الجامعة. لم يجد عملا بعد خروجه من الخدمة، فاقرضه البنك ليشتري تاكسي يعمل به حوالي 14 او 12 ساعة يوميا.

ومثلما بدأت «الدردشة» مع كل سائق تاكسي ـ أكثر من خمسين مشوارا لمتابعتي الانتخابات في مصر ـ وجرسون، وجرسونة، وبائع جرائد، وبواب عمارة، وصراف بنك، وشيَّال في المحطة، سألت الحجار: «لمن ستصوت؟».

وكغيره من حوالي نصف من انخرطوا في «الدردشة» اختار الحجار حسني مبارك. «بتاع سلام. كفاية انه مفيش حرب».

استطرد البعض «ده .. وعارفينه...... والتَنْيين مين؟ نعرفهم منين؟ مش يمكن يعملوا حرب؟». وكان الاهتمام الأكبر لتحسين الاقتصاد ومكافحة الفساد. «احنا فاهمين الريس (مبارك)، بس ربنا يكرمه بشوية ناس نضاف ... السوق يتصلح والشبان يشتغلوا».

البعض يرى مبارك «مالي المركز الكبير قدام الدنيا»، كما يقول رفعت الجرسون، «مصر كبيرة قوي عليهم (مرشحي المعارضة) برضه».

معظم البسطاء جامعيون اضطروا لامتهان وظائف متواضعة تقليديا، ليس بينهم اعضاء في أحزاب سياسية.

ويشك معظم البسطاء في مصداقية المرشحين، ربما لضعف المعارضة، وتركيز مرشحيها على السلبيات. يعزي المثقفون ضعف المعارضة لمحاصرة العمل الحزبي وتغييب المجتمع المدني من المشهد السياسي لخمسين عاما. «ايمن نور (مرشح حزب الغد) عايز يدي 150 جنيه لكل شاب!» تكررت بلهجة لا تحمل الجد، «طيب ما يشغلش الشاب ليه؟».. او «150 جنيه يعملوا ايه ؟ بذمتك بتدفع كام في الأوتيل؟».. او«اضرب 150 في كام مليون... شوف يطلعوا كام... الفلوس دي منين؟» مثلما تقول عايدة صرافة البنك.

سلامة، سائق آخر لن يصوت «..لأنهم حيجيبوا إلّي هُمَّ عايزينه» وإذا تأكد من نزاهة الانتخابات فيختار مرشح حزب مغمور وعد بحل لأزمة المرور الدائمة.

ويعكس هذا اختيار البسطاء الواعي لبرامج يرونها تحسينا لظروفهم المباشرة، وفي تشككهم في من يسرف في وعود يصعب تنفيذها اقتصاديا.

قبل سنوات كان سائق التاكسي او الجرسون يتوجس من السؤال، ويغير الموضوع بعيدا عن السياسة، فربما «يروح في داهية» اذا ما فسرت الإجابة كتشكيك في الزعيم، خاصة ايام شمولية الاتحاد الاشتراكي الذي يتحول ببطء الى سماد في مزبلة التاريخ.

لقد بدأ البسطاء عبور صحراء اللامبالاة، الى وادي الحوار حول مصلحتهم الفردية.

أكثر من ربع من صادفتهم يختار مرشحي الوفد، والغد، والباقي يقاطعون، بقوة القصور الذاتي. فالذين يذكرون ممارسات الحياة النيابية الليبرالية الدستورية في مصر اصغرهم الآن في الستين من العمر.

التجربة جديدة على جيل أظلمت ادمغتهم شمولية تحويل العسكر رسالة وزارة المعارف ـ من المعرفة ـ الى برمجة «التربية والتعليم» لعقول الصغار لتصبح وقود آتون الآيديولوجية الثورجية. الضوء الساطع يبهر عقولا عاشت في ظلام مناهج دراسية مضللة، البعض يفتح عينيه ببطء والبعض يدير ظهره والآخر يحدق في انبهار اعلامي غير مسبوق .

اوقف محررو البث برامجَ، وقاطع المذيعون ضيوفاً حاولوا مدح أحد المرشحين ـ والرئيس مبارك عدة مرات ـ مذكرين المتحدث بحياد الإعلام. تغطية التلفزيون المصري للانتخابات كانت الأنجح منذ تأسيسه في الخمسينات. تعليمات وزير الإعلام، عاشق الشفافية انس الفقي، كانت قاطعة «كفرمان» صارم ، بمنح المرشحين اوقاتا متساوية، وتجنب الدعاية لأي مرشح، ولو بشكل غير مباشر، في برامج حوارية غير مناقشات ممثلي الأحزاب انفسهم.

تعوَّد القارئ المصري، منذ كارثة تأميم الصحافة، ان تغني الصحف القومية (ملك الدولة) معزوفة الزعيم الأوحد، وحبيب الملايين، ففوجئ بصور ايمن نور، ومرشح الوفد نعمان جمعة، وتغطية حملاتهما بتساو، وأحيانا تزيد على المساحة المخصصة لحملة مبارك، رغم ان للمعارضة صحفها الخاصة التي امتلأ بعضها بنقد جارح للرئيس مبارك.

الطريف ان بعض النقد الجارح في صفحات بها اعلانات مدفوعة الأجر من شركات ورجال اعمال، يروجون لبضاعتهم طبعا، بوضع صورة الرئيس مبارك وتأييده، في لقطة تعبر عن تغليب المصلحة الاقتصادية على «الآيديولوجية».

ولأن السباق كان لكسب الناخب، جاءت الحملة مصرية للمصريين سواء في حوارت تلفزيونية بين ممثلي الأحزاب، او طواف المرشحين بين الناس ونزولهم الى الناخب ـ بمن فيهم مبارك ـ الذي اكتشف مهارة الحوار في الشارع، مثيرا حسد الجيل الأصغر سنا. وغابت الشعارات الأجنبية القومجية الثورجية عن تحرير اراض مغتصبة وحماية العروبة، «اللي خربت بيتنا» في قول محب جرجاوي، الذي باعني احلى حبات المانجو والجوافة اثناء حوارنا اليومي حول السوق والوظائف، والإصلاحات الاجتماعية، والضرائب.

وربما يفسر هذا تشابه برامج الأحزاب الثلاثة الكبرى ـ الوطني، الوفد، والغد ـ الفائزة بأكثرية الأصوات. فكلها ليبرالية اصلاحية حول تطوير الاقتصاد وإعادة التوازن بين صلاحيات الدولة ورئيسها، وبين البرلمان والحكومة. استندت البرامج في مجملها إلى فكر الليبرالية المصرية من الحركة الوطنية للقرن الـ 20.

ولذلك، لم يجرؤ الإخوان على اثارة المتاعب، فقد صدمهم ترك الامة المصرية الشعارات والتيارات القومجية والإسلاموية خارج سياق الجدل الانتخابي، فانسحبوا من المشهد السياسي لإعادة حساباتهم والبحث عن ثغرة يحاولون التسلل منها عائدين. كانت العملية الانتخابية هذا الأسبوع اهم في تأثيرها التاريخي من النتيجة لأنها «بروفة» لمرات قادمة ستكون افضل، فقد خرج المارد من القمقم.

وسلطت جمعيات غير حكومية كشافات الضوء على الأخطاء، «لتلافيها في الانتخابات القادمة من اجل مصر»، مثلما كرر ممثلوها في نقدهم للعملية الانتخابية في تلفزيون الدولة.

الانتخاب التنافسي المباشر، ليس فكرة طارئة اقترحها الرئيس على البرلمان، وإنما مرحلة من حركة تطور تضمنت حوارا عميقا مستمرا داخل المؤسسة الحاكمة وبين العقول المصرية. تطور مر بمحطات اهمها استعادة الأمة ثقتها بنفسها عندما أعاد انور السادات اسم مصر المسروق في مغامرة الوحدة الفاشلة عام 1958، وانهاء ديكتاتورية الحزب الواحد، وتطور التعددية الى احزاب كثيرة في الثمانينيات والتسعينيات.

انتخابات الرئاسة حركة تصحح فيها الأمة المصرية خطأ تاريخيا استمر 50 سنة ـ مجرد لحظة عابرة في عمر مصر ـ وبداية لعودة الروح القديمة للأمة. ومثلما بدأت نهضة محمد علي الحديثة في مطلع القرن 19 ونهضة مصر في مطلع القرن 20 على يد مجموعة استاذ الجيل احمد لطفي السيد باشا، بدأت نهضة مصر للقرن 21 على يد ابنائها هذا الأسبوع، وغدا سيكون افضل لمصر الأم.