تاريخ الأوتار والحداء

TT

كان الموسيقار زكي نصيف يعطيني دروساً خصوصية في الموسيقى شبه اسبوعية. وكان يأتي كل يوم لتناول الغداء في «السيتي كافيه» ويجلس وحيداً. وفي انتظار الطعام او مع القهوة كان يدندن بصوت شجي. وكان مقعدي الى جانب مقعده. وكنت ادرك ما معنى ان يكون المرء الى جانب زكي نصيف. ودون ان اثقل عليه كنت اطرح الاسئلة عن عالم احبه ولا اعرفه. فأسأله مثلاً ما معنى نغم «السيكاه» او «النهوند» اللذين اقرأ عنهما. وكان يفيض. وروى لي تاريخ الربابة. وقلت له مرة انني اعشق «البزق» و«القانون» فشرح لي تاريخهما. وكنت اسأله حكمه على ذوقي في حب بعض الاغاني والمطربين، فيفسر لي اسباب ذلك الحب، ويعود، كأستاذ للموسيقى، الى تواريخ الالحان واشعارها واصحابها.

كان واسع الثقافة ورفيع النفس وخفيف الظل. وقد سألته مرة لماذا اختار الموسيقى؟ هل هو الشغف وحده؟ وقال انه ولد اعرج. فلما انهى دروسه الثانوية وجد ان التخصص ثقيل عليه: «هل ادرس الهندسة ثم اكتشف انني لا استطيع الذهاب الى ورشة؟». وهكذا ذهب الى المعهد الموسيقي الذي عاد فأصبح استاذاً فيه. كان زكي نصيف في معرفة العلوم الموسيقية من طينة صبري الشريف، الاستاذ الكبير الذي اعتمده الرحابنة في التوزيع الموسيقي. وقد كان لمجموعة من الفلسطينيين فضل شديد على النهضة الفنية والاذاعية في لبنان. فخلال حرب السويس استقال اعضاء المجموعة من اذاعة «الشرق الادنى» احتجاجاً وجاءوا الى بيروت واسسوا اول اذاعة حقيقية في لبنان. وهم غالب الدجاني ومصطفى ابو لغد وكامل قسطندي ورشاد البيبي ومصطفى ابو غربية. اما صبري الشريف فاتخذه الرحابنة ليتمم ما فاتهم من ثقافة موسيقية. واذكر انني ذهبت مرة الى سماع محاضرة له. وكانت جولة مذهلة في تاريخ الموسيقى العربية. لكن ما بقي في ذاكرتي منها ان البداية كانت عندما سقط بدوي عن ناقته فأخذ يئن قائلاً «يا يداه. يا يداه» فسمعها بعض من حوله فطلبوا منه ان يعيد. لقد كان ذلك بداية الحداء الذي سوف يتحول الى طرب عربي يظل «صافياً» الى ان يتداخل بالموسيقى الفارسية مع قيام الدولة العباسية.

قبل ايام كان هناك تكريم لذكرى زكي نصيف. وقد حرصت على الحضور. وجلست في آخر المقاعد الخلفية. واثار ذلك فضول سيدة متقدمة في السن وقد رأت في الحضور غريباً، فسألتني: «هل كنت تعرفه؟». قلت لها: لقد كان استاذي، بالمجان.