ما بعد أيلول .. ما بعد كاترينا

TT

لا يستطيع أحد اليوم أن يقاوم المقارنة بين العذابات الإنسانية في العراق وتلك التي في نيو أورليانز مع اختلاف الأسباب والنتائج. وهناك فيض من المقارنات في ردود الأفعال ومحاولات التوصل إلى الدروس المستقاة من كلا الكارثتين. وقد فوجئ قرّاء الصحف الغربية مثل النيويورك تايمز بالمعلومات المتعلقة بواقع الحال في المدينة قبل الإعصار من تدني مستوى التعليم وارتفاع مستوى الجريمة وانخفاض مستوى الاندماج الثقافي والعرقي بين المدينة وبقية أنحاء البلاد.

والدعوة اليوم ليست فقط إلى إعادة بناء المدينة (وهل من يتذكر اليوم: إعادة اعمار العراق!) وإنما إعادة بنائها على أسس جديدة تمنح سكانها فرصاً أكبر لحياة حرّة كريمة أسوةً بالمناطق والمدن الأخرى، في بلد تفخر دعايته الرسمية بأنه يمثـّل اليوم القوة الاقتصادية والعسكرية العظمى في العالم. و بما أن كارثة كاترينا التي حلـّت بسكان نيو أورليانز الأبرياء من صنع الطبيعة فلا وجل أن تتجه نقمة السياسيين إلى صانع الحدث، ولن يأخذ أحد بأقوال بعض المتطرفين الذين فهموا الإعصار على أنه «عقوبة من الله» لأنّ الناس لا يقرأون التوراة هناك أو «لأنّ الإدارة الأميركية وافقت على الانسحاب الإسرائيلي من غزّة» كما ادعى أحد الحاخامات. ولكنّ ردود الأفعال المتطرفة هذه تذكـّرنا بردود الأفعال الخاطئة على أحداث الحادي عشر من أيلول وأحداث الثاني عشر من آذار في مدريد وأحداث السابع من تمّوز في لندن، والتي تمّ استغلالها أسوأ استغلال من قِبَل متطرفين ومتعصبين من انتماءات وديانات مختلفة لتوسيع حجم الهوّة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي من جهة وبين الجاليات المسلمة ومواطنيهم في الدول الغربية من جهة أخرى.

لقد تحدّث العالم بعد أحداث أيلول عن عالمٍ جديدٍ له قواعده وأسسه المختلفة عن عالم ما قبل أحداث أيلول، وها نحن نكتشف اليوم بعد أربع سنوات من الكارثة أن قواعد عالم ما بعد أيلول قد أتت بمزيد من التمييز الذي يخلق الغضب والنقمة وتجاهلت مخاطر الاحتلال والقتل والعنف ووفـّرت الأرضية للحروب الأهلية والنزاعات العرقية والطائفية حتى بين أبناء البلد الواحد، وأطلقت العنان لامتهان كرامة الملايين من المدنيين في الشرق الأوسط بطريقة استحضرت إلى أذهان الناس التاريخ الأسود للاستعمار البغيض، الذي قسّم العرب وخلق الحواجز المريعة بين أبناء الشعب الواحد الذين يتكلمون لغة واحدة ويشتركون في العديد من المقوّمات القومية كالدين والثقافة والتاريخ، وفرضت شروطاً غير مسبوقة حتى لمتابعة التحصيل العلمي والمعرفي لأبناء الشرق الأوسط، إلى درجة حجب قائمة بعض الاختصاصات كلياً عنهم مما سيساهم بعد سنوات في خلق فجوة معرفية غير مسبوقة بين أبناء الشرق الأوسط وبقية أبناء العالم، كما أن دعوات ظهرت لتفتيش أبناء السحنة السمراء المتوسطيين أينما كانوا وحيثما وجدوا، بسبب انتماء بعض الأفراد من الإرهابيين للمنطقة، الأمرُ الذي خلق نزعة عنصرية ضدهم جديدة وغريبة على أبناء جيلنا الذين درسوا في الغرب ونعموا بصداقاته وشعروا بانتمائهم لأفضل ما تقدّمه البشرية ولكنّ هذه النزعة العنصرية سوف تشكـّل مواقف الأجيال الجديدة التي لم تشاركنا المفاهيم السائدة في عقود الحريـّة والتعايش السلمي من القرن الماضي، والذي كان عصراً متميزاً بالتفاعل بين الثقافات والانفتاح على الأمم. وأمرٌ مشابه حدث بعد أحداث السابع من تموز في لندن، ولا شكّ أنّ كلّ الإجراءات يجب أن تتخذ لمنع نشر الكراهية ولكنّ القوانين والمواقف التي تصدر بعد كلّ جريمة يجب ألا تزيد من الغربة بين الثقافات والشعوب بينما يتمّ تجاهل الدعوات العاقلة والحكيمة في مثل هذه الأوقات الصعبة والتي تدعو الى المزيد من التمازج الثقافي والتآلف العرقي، وأن يكون التركيز الديني دائماً على الإيمان بالله مهما اختلفت الطرق والأساليب والوسائل، أي أن تكون ردود الفعل مشابهة لردود الفعل على إعصار كاترينا، ألا وهي تفحّص الواقع المريض ومعالجة سلبياته وخلق دافع اقتصادي وفرص للعمل ونظام تدريسي يستوعب الشباب

ويضمن لهم فرص العمل في المستقبل، وباختصار الاستجابة للكارثة بردود فعل إيجابية من خلال تعميق الاندماج الثقافي وتحقيق المساواة في الفرص وأولاً وقبل كلّ شيء من خلال تحقيق مستوى عالٍ للتنمية لأنّ المجتمعات التي حققت التنمية هي التي حاربت الكوارث والجريمة وأمنت لمواطنيها الاستقرار والحريّة والديمقراطية.

إن انعكاسات الأحداث على مصائر الملايين في الشرق الأوسط والولايات المتحدة منذ عاصفة الصحراء إلى إعصار كاترينا حتى اليوم هي انعكاسات كارثية أدت إلى نتائج معاكسة تماماً للأهداف المعلنة لتحقيق الازدهار والحريّة والديمقراطية. فمن جهة تمّ إهدار مئات المليارات الثمينة على الحروب والدمار بدلاً من تحقيق التنمية وتوفير فرص العمل للملايين في العراق ونيو أورليانز على حدٍّ سواء، ومن جهة أخرى توسعت رقعة الإرهاب واشتدّ أزر التطرّف وقضت أو تكاد على العلمانيين والليبراليين ودعاة الحريّة والديمقراطية وحقوق الإنسان الذين يعملون من أجل عالمٍ واحدٍ خالٍ من الاحتلال والاستيطان والعنصرية والإرهاب.

وعلّ أحد أخطر الانعكاسات التي تعدُ بآثَار مستقبلية خطيرة لما يجري في منطقتنا هو الحرب غير المعلنة على العلمانيين من العراق إلى فلسطين حيث يكتسب المتعصبون من كلّ الأديان مساحة للعمل والتنسيق غير المباشر فيما بينهم، بينما تشارك قوى خارجية وداخلية في ضعضعة الأرضية التي يقف عليها العلمانيون الذين يحاولون بناء دول على أسس المواطنة والالتزام بالواجبات وفهم الحقوق فهماً صحيحاً

وليس على أساس طائفي وعرقي وشخصي يتصف بالحرب من أجل الزعامات والسيطرة وتـُغذي هذه الشهية قوى خارجية تدّعي الرغبة في إحلال الحريّة والديمقراطية، بينما هي تطور سايكس بيكو التي مزّقت رقعة الوطن الواحد لتعيد تقسيم أبناء البلد الواحد إلى طوائف وأعراق ومذاهب ومصالح شخصية تدفن مصلحة الوطن في قبر الانتماءات الضيقة والولاءات والمصالح والزعامات التي لا مستقبل ولا قيمة

ولا فائدة لها سوى دقّ المسامير الأخيرة في نعش الأوطان الجريحة.

لقد أكـّد الكثيرون من الكتـّاب والمحللين أنّ الجواب على كارثة نيو أورليانز يجب أن يكون المزيد من الاندماج الثقافي الحقيقي والازدهار الاقتصادي للمنطقة، وإعادة بنائها على أسس جديدة تقاوم ليس فقط الكارثة الطبيعية، وإنما الكارثة الاجتماعية والتعليمية والأمنية التي وجدت قبل ذلك. ما يحتاجه الشرق الأوسط اليوم هو هذا الموقف أيضاً الذي يحاول مقاربة المشكلة بين الشرق والغرب بواسطة المزيد من التفاعل والانفتاح والتنمية والاستثمار والتقريب بين المستويات، وليس من خلال الإقصاء والإبعاد والتغريب والتهم والشكوك وخلق الحواجز بين الشعوب بالعقوبات والحصار والحروب. ما يحتاجه الشرق الأوسط اليوم ليس المزيد من الحروب والاحتلال التي لن تقود إلا إلى المزيد من العنف والدمار والمعاناة وعدم الاستقرار، بل إن ما يحتاجه هو المزيد من الحوار والتنمية والاندماج بالعالم على أسس من المساواة في الكرامة الإنسانية والتعاون، وليس بالسماح لمواقف بعض المتطرفين والعنصريين أن تصبح سياسات تقود العالم من كارثة إلى أخرى ومن أزمة إلى أزمة.