سنغافورة وكاترينا .. بين الحكومة واللا حكومة ..!

TT

سلط إعصار «كاترينا» الضوء على أمور كثيرة ، والناس الذين يعيشون في بلدان ما زالت قوانين الجاذبية سائدة فيها قد لاحظوا ذلك تماما ، فأزعجهم كثيرا لأنه شبيه بمراقبة الأب وهو يتهاوى أمام أبنائه.

ذلك هو بالتأكيد ما شعرت به بعد مراقبة كارثة «كاترينا» من هذه النقطة التي تبعد مسافة تساوي نصف الكرة الأرضية، من سنغافورة المدينة ـ الدولة التي إذا كانت تؤمن بأي شيء فهي تؤمن بالحكم الجيد الرشيد. فهنا قد يتم تنظيف الأرصفة في وقت مبكر، وقد يتم تغريمك إن رميت بلبانة في الشارع، وسنغافورة أفضل مكان في آسيا يمكن أن تكون موجودا فيه خلال إعصار ما. عليك أن تثق بما أقوله لك من أن رئيس الدفاع المدني هنا هو ليس مجرد أي شخص سبق لك أن شاركته غرفتك في الجامعة.

في الحقيقة، تؤمن سنغافورة وبقوة أن عليك أن تحصل على أفضل المؤهلين والأقل فسادا كي يحتلوا مواقع حكومية رفيعة، فالخدمة القضائية والمدنية تدفع راتب 1.1 مليون دولار سنويا لرئيس الوزراء ، بينما تدفع للوزراء وقضاة المحكمة العليا أقل من مليون دولار قليلا في السنة بينما تدفع للقضاة الآخرين والموظفين الحكوميين رواتب عالية أيضا.

منذ سنوات سنغافورة المبكرة أصبح الحكم الجيد قضية مهمة، لأن الحزب الحاكم كان في صراع مع الشيوعيين من أجل كسب قلوب وعقول الناس، حيث كان ينظر للأخيرين بأنهم أناس غير فاسدين، لذلك كان على الدولة أن تكون بنفس المواصفات أو أكثر.

بل وحتى بعد اختفاء الشيوعيين، احتفظت سنغافورة بتقاليد الحكم الجيد، لأنها بلد يبلغ عدد سكانه أربعة ملايين نسمة ولا يمتلك أي موارد طبيعية ، وهذا ما يجعلها مجبرة على أن تعيش باستثمار ذكاء أبنائها. فهي بحاجة إلى أن تدير اقتصادها ومدارسها بطريقة تستخرج أقصى ما يمكن من قدرات أبنائها، وهذا هو دليل تمكن الشعب المتكون من أربعة ملايين شخص من أن يحقق احتياطيا قدره 100 مليار.

يقول كيشور محبوباني، عميد كلية لي كوان يو لسياسات القطاع الخدمي،: «في الحقول المهمة التي تتعلق ببقائنا مثل وزارات الدفاع والمالية والداخلية نحن نختار أفضل القدرات ، وأنتم تخسرون نيو أورليانز لكن لديكم مائة مدينة أخرى مثلها، فيما نحن وكدولة ـ مدينة إذا خسرنا سنغافورة لن يكون لدينا شيء آخر.. لذلك فإن المعايير الانضباطية عالية جدا عندنا مع درجة عالية من المحاسبة».

حين انهار نفق للمشاة في أبريل 2004 وقتل بسببه أربعة عمال استنتج تحقيق حكومي بأن من اللازم سجن أو تغريم أكبر المديرين التنفيذيين في الشركة المتعاقدة التي بنت ذلك المرفق ، فيما تلاشى الانضباط الذي فرضته الحرب الباردة على أميركا، نحن سمحنا لعائلات ضحايا 11 سبتمبر أن يعيدوا تصميم أجهزة استخباراتنا، بينما قام رئيسنا والكونغرس بجلسة عند منتصف الليل لمناقشة العناية الصحية لمرأة واحدة هي تيري شيافو، بينما يتم إهمال الحالة الصحية لـ 40 مليون شخص لا يمتلكون تأمينا خاصا بهم.. وحكومتنا شرعت بحرب في العراق بدون أن تكون لديها أي خطة للصباح الذي يعقبها، ثم قلصت الضرائب وسط الحرب لضمان أن الأجيال القادمة ستدفع الفاتورة.

قال كاتب الأعمدة سوميكو تان في صحيفة «ذا ستريتس تايمز» متحدثا عن إعصار كاترينا «نحن مصدومون لما نراه. فالموت والدمار من كارثة طبيعة هما شيء طبيعي. لكن صور الموتى المتروكين في الشوارع واللصوص المسلحين الذين ينهبون المحلات والناجين الشديدي الحاجة للانقاذ والانقسامات العرقية، إنها كلها مخالفة تماما للصورة التي بقينا نتخيلها عما يفترض أن يكون في أرض الأحرار... وإذا كانت أميركا تصبح مفككة حينما تحدث أمور سيئة في حديقتها الخلفية، فكيف ستتمكن من تحقيق دورها كقائد للعالم؟»

ذلك هو الفرق إذن بين سنغافورة و«كاترينا».. بل وأميركا .

* خدمة «نيويورك تايمز»