كلام عن مسرحية «الملك لير»لشيكسبير

TT

قدم وليام شيكسبير عرض مسرحية «الملك لير» عام 1605 تقريباً، وجعل مكانها بريطانيا في زمنها الوثني قبل المسيحية، يعتبرها بعض النقاد أكثر مسرحيات شيكسبير، الفاجعات، جفافاً ومرارة، وراءها مسرحي انجليزي من جيل الستينيات، اسمه ادوارد بوند، محوراً يستحق إعادة التأمل لإدانة العنف في المجتمع الغربي والتحذير من استفحاله، فقدم مسرحيته بعنوان «لير»، فقط من دون «ملك»، عام 1971.

الخطوط الرئيسية في «الملك لير» تبدأ بنزوة ملك عجوز متكبر وعنيد وأناني وكسول، طرأ له أن يكسب مذاق العسل من دون هم إبر النحل، فقرر أن يتخفف من أعباء مسؤولياته الملكية ويقسم مملكته الشاسعة على بناته الثلاث مع احتفاظه بالتاج ولقب الملك ووجاهة المنصب وفخامة اللقب وحاشية من مائة فارس تصاحبه في استمتاعه الحر في الذهاب والرواح، لكنه اشترط قبل توزيع تركته ـ أو تبديد مملكته ـ أن تعبر كل ابنة عن كم الحب الذي تحسه نحوه. في تلك اللحظة من الحماقة والغرور والأنانية، لم يستطع الملك العجوز أن يفرق بين المداهنة والنفاق المنمق بالكلمات المعسولة والمزركشة بالمبالغات الكاذبة، وبين الحب المخلص الذي قد لا يجيد تجسيد الإحساس العظيم في تعبير لفظي خلاب، وبهذا فتح «الملك لير» الباب على مصراعيه لتقع مملكته، بعد تمزيقها، في براثن داهيتين بارعتين في إدعاء الحب، وصولاً إلى تحقيق مآربهما لإشباع شهوة السلطة المسيطرة عليهما، حين أخذت الابنة الكبرى والوسطى نصيبهما الكبير بالإضافة إلى اقتسام نصيب أختهما الصغرى الصادقة التقية «كورديليا»، التي لم تعرف التعبير عن مشاعرها لأنها كرهت ابتذالها في كلمات، رغم حبها العميق الأمين الذي تكنه لوالدها وبلادها. ومن ثمّ اجتمعت، من البداية، ثلاثة من عناصر الفاجعة المحتومة: أولها: حماقة التبديد عند الملك، الذي تصرف بغطرسة الإقطاعي مالك الأرض، إذ لم ير في مسؤولية «الملك» سوى «التملك»، بينما هي في حقيقتها «الرعاية». ولم يدرك وهدة التمزيق والتمزق والإنقسام وفتنة التناحر والأطماع التي قاد إليها البلاد. وثانيها: شهوة حب «السلطة»، لا حب «الخدمة»، التي أضرمت نوازع الفساد في الابنة الكبرى والوسطى وحولتهما إلى حيتين سامتين تبخان الشراسة والجحود بوجه والدهما «لير» وتجعلانه ملكاً «سابقاً» مجرداً من أبسط حقوقه الإنسانية، بعد أن حنثتا بالوعد والعهد وتنصلتا من حبه والشفقة عليه، إلى أن وقعتا في جوع الرغبة الحسّية فأطبقت عليهما باب هلاكهما في المصيدة الإبليسية. وثالثها: جمود المنطق عند الفتاة الأمينة «التقية»، التي لم تعرف الفرق بين «النفاق» و«الكياسة»، فقد كان عليها، وهي «التقية»، أن تكون «فطنة» تقدم بحلاوة «الصدق» صياغة «الأمانة» التي يستدل منها الأب على حبها المخلص له، فمن غير الصحيح أن «الإخلاص» لا لسان له، وأن «الكلمات» لا تجيد توصيل رسائل «الحق».

لقد كانت «كورديليا» سمجة الرد، غبية الوعي، مثل «أوفيليا» في مسرحية هاملت (ولي عنها كلام فيما بعد)، فعلى الرغم من معرفتها فساد ودهاء وكذب الأختين، فإنها لم تقدم التحدي والمقاومة، من جانبها، وواجب «التقى» لمجابهة قوى الفساد وإحباط مخططاته وكشف أكاذيبه.

هذه العناصر الثلاثة: حماقة التبديد + شهوة السلطة + جمود المنطق عند الأتقياء، وغيرها، قدمها شيكسبير في «الملك لير» لنراها ونعرف أنها إذا اجتمعت، في أي زمان ومكان، لا بد أن ينتج من تفاعلها الفواجع والمآسي وخيبة الأمل والخذلان والإرهاق إلى حد الوصول إلى الجنون.