ضاحك رغم الألم

TT

انتقل الى رحمة ربه قبل بضعة أيام صديقي وزميلي الاذاعي الكبير فؤاد الجميعي بعد مرض عضال استغرق عدة سنوات. عرفته ليس كصديق وزميل في الاذاعة البريطانية وحسب، بل كرفيق صاحبني مشوار الظرف والفكاهة والسخرية. ياما تبادلنا الحكايات والنكات والطرائف. ولكنه منذ ان هاجمه المرض الخبيث، توارى عن الأنظار، وكالفارس الجريح سحب جسمه وجراحه وانزوى في ركن قصي. لم يثقل على الناس ولا استجدى عطفهم بكلامه عن مرضه وعوارضه ومعالجاته. فعل ما فعله صاحب الحكاية الذي سقط من سطح البيت وكسر رجله. قال لزوجته لا تدخلي أي عائد قبل أن تسأليه. قولي له هل سبق وسقط من السطح وكسر رجله؟ اذا قال لا، فاصرفيه، ولا تسمحي له بزيارتي. اذا قال نعم، فافتحي له الباب.

لم يطلب المرحوم فؤاد ذلك من زوجته. ولكنه أمرها بالاعتذار عن الزيارات كليا، وسرى المنع حتى على المكالمات الهاتفية، لم يعد بامكاننا سؤاله عن صحته حتى بالهاتف. ولكنني فهمت بأنه وصل المرحلة الاخيرة من علته واصبحت المسألة مسألة ايام معدودة، كان بعبارة اخرى في النزع الاخير.

فجأة رن الهاتف. رفعت السماعة، واذا به ذلك الصوت الجميل والنبرة الظريفة التي اعتاد مستمعو الاذاعة البريطانية على سماعها من راديو لندن. ولكنها كانت ايضا نبرة ابو شريف: قال: كنت اقرأ مقالتك «حوار الدشاديش والبناطيل» التي اضحكتني رغم الألم وشعرت برغبة عارمة لأن اكلمك.

لنصف ساعة رحنا نتبادل النكات والقفشات والتعليقات، ولا كأنه رجل على فراش الموت. كان يروي ويضحك بنفس ذلك الصوت الأليف والنبرة الضاحكة التي الفتها منه. قلت لنفسي وقد اغلقت الهاتف، كيف يمكن ان يموت مثل هذا الرجل؟ كلا، انه لن يموت، فما سمعت عن رجل يموت وهو يضحك.

رن الهاتف ثانية. ولكنه لم يكن صوت فؤاد. كان صوت قرينة حياته السيدة الفاضلة ديانا. قالت هل تعرف يا خالد، انك الشخص الوحيد الذي كلمه فؤاد بالهاتف من فراشه. قلت لها، وهل تعلمين انه كان الرجل الوحيد، الذي كان ينكت ويضحك وهو على فراش الموت؟

ولكن لم لا، فقد كان مصريا اسكندرانيا اصيلا. وكنت قد قلت في كتابي «السخرية السياسية العربية» ان المصريين يجرون وراء النكتة كما يجري الانجليز وراء الكرة. لقد اخطأت. كان علي ان اقول انهم يجرون وراء النكتة الى القبر، كما يجري الانجليز هروبا من القبر.

هذه مرثاتك يا ابا شريف في يوم تشييعك لمثواك عصر هذا اليوم.