من «تصدير الثورة» .. إلى تصدير «المعرفة النووية»

TT

في محاولة من جانبه للتخفيف من الحملة الدولية التي تستهدف الطموح النووي لبلاده، عرض الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجَّاد، الحديث العهد في الجلوس على قمة السلطة، يوم الخميس 15 سبتمبر (أيلول) الجاري بعد لقاء مع «المموِّل» النووي فلاديمير بوتين، والمرتعش من ايران النووية، رجب طيِّب أردوغان استعداد الجارة الثورية لنقل تكنولوجياتها النووية إلى دول إسلامية أخرى. ومن باب التطمين خشية فهم العرض على غير حقيقته المسالمة، فإن الرئيس الإيراني قال «اننا مستعدون لنقل المعرفة الفنية النووية إلى هذه الدول».

ولقد انزعجت الإدارة الأميركية من هذا العرض الإيراني السخي، رغم اقتناعها بأن «التصدير النووي» أكثر صعوبة من «التصدير الثوري» وان الثورة الخمينية التي شقت طريقها إلى بعض الديار الإسلامية مثل الكويت والبحرين ولبنان والعراق والإمارات، وأمكنها زرع شتول سقتها بعناية، فغدا بعضها شجراً باسقاً مثل «حزب الله» في لبنان، وبقي البعض الآخر شتولاً ضعيفة البنية جاءت التطورات المتلاحقة في المنطقة والمحاولات المستديمة لزعزعة المثلث السوري ـ الإيراني ـ اللبناني، تحول دون نموها على النحو المأمول. أما لماذا الانزعاج فلأن العرض يلقى آذاناً صاغية في أوساط الرأي العام الإسلامي، وهذا بدوره يشكل ضغوطاً من جانب الناس على حكوماتهم لكي يناصروا التوجه النووي الإيراني... وبالذات بعدما قرر ممثل العالم الإسلامي في النادي النووي الجنرال برويز مشرَّف ركوب موجة التطبيع مع اسرائيل، وتبادُل التصافح في اروقة الأمم المتحدة مع آرييل شارون، وكما لو انهما تواقان او متلهفان إلى هذه المصافحات وتبادُل العواطف وجاءت الخطوة الغزاوية مثل فتح بوابة محكمة الإغلاق دخل منها الحكم الباكستاني الحالي إلى ساحة التطبيع، مسقِطاً حلم الرأي العام المسلم من أقاصي الصين إلى سفوح الجليل في فلسطين الطمأنينة إلى أن هنالك دولة إسلامية عريقة وصلبة المراس اسمها باكستان، أوصلتها وطنية وإسلامية محمد علي جناح إلى انها غدت دولة نووية، قادرة في اللحظة الأكثر شدة على استعمال الورقة النووية، وبذلك تعيد للعالم الإسلامي المسكين الحَرَم الثالث، وتحرر بالتالي للعالم المسيحي المستكين كنيسة المهد ودرب الجلجلة وغيرها، وكل بقعة مقدسة ارتضى المستكينون احتلال اسرائيل لها، لأن بلفور الذي لا سامح الله وعده الذي وضع حجر الأساس للاغتصاب، ولأن الإدارة الأميركية بدءاً بالرئيس الثالث والثلاثين هاري ترومان، وصولاً إلى الرئيس الثالث والأربعين جورج بوش الابن، عززت ذلك الوعد بأن حجبت عن اسرائيل أي إدانة لعدوان تقترفه بما في ذلك رفض ادانة انتهاك المقدسات المسيحية والإسلامية على حد سواء.

كما ان الانزعاج الأميركي يأتي على خلفية التناغم المتواصل بين الرئيس الجديد للجمهورية الإسلامية في إيران محمود أحمدي نجَّاد، والرئيس العنيد لجمهورية فنزويلا هيوغو شافيز أكثر رئيسين يطالبان بنقل مقر الأمم المتحدة من أرض أميركية إلى أرض محايدة.. وهو مطلب كان في الماضي حكراً على الثوريين العرب الذين انقرضت أُبهة بعضهم، وعلى أُهبة التآكل أبهة البعض الآخر، ثم جاء الثوري الإسلامي الإيراني والثوري المسيحي الفنزويلي إلى نيويورك، ليُطلِق منها الثاني الاقتراح الجريء الذي هو أشد وقعاً في نفوس الرأي العام العالمي المسلم والمسيحي على حد سواء، وخلاصته ان تكون القدس مقراً للمنظمة الدولية، وبذلك تتأكد حيادية هذه المدينة، فلا هي «عاصمة الشعب اليهودي لأكثر من ثلاثة آلاف عام، وعاصمة دولة اسرائيل إلى أبد الآبدين»، على نحو ما جاء في كلمة ارييل شارون التي حرص على القائها بالعبرية من على منبر الامم المتحدة يوم الخميس 15 سبتمبر (ايلول) الجاري، ومِن قبل ان تلعب «المصادفة» لعبتها متمثلة في لقاء المصافحة المشرَّفي ـ الشاروني عِلْمَاً بأنها لم تكن مصادفة ولا مباغتة، وإنما هي حذاقة السمسار التركي المهيب رجب طيب أردوغان الذي جمع بـ «الحرام» الرأس الإسرائيلي مع الرأس الباكستاني على المخدة البوشية والفراش الغزَّاوي، وبعد هذه «الصدفة» التي هي خير من ألف ميعاد، جاء لقاء حمد القطري بزميله سيلفان شالوم وعبد الله الأردني بالمغضوب عليه ارييل شارون، وكان الإعجاز الغزَّاوي هو سقف هذه اللقاءات التي لن يوقفها سوى معاودة طرح المبادرة السعودية التي اقرتها القمة العربية الدورية الثانية التي استضافتها بيروت يومي 23 و24 مارس (آذار) 2002، بتجيير من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمة الله عليه، على أن يتم إرفاق ذلك بنص يحرِّم على أي عربي الخروج على اطار هذه المبادرة خلسة او بالعلن لا فرق. واذا كان لن يحدث ذلك فإن التسلل سيتكرر ما دام لا جزاء عليه أكثر من الذي يُجازى به اللاعب الذي يقترف خطأ ضربة تسلل في مباراة كرة قدم.

ومع ان العرض الإيراني السخي لن يجد نظاماً اسلامياً يأخذ به بمن في ذلك ليبيا، التي كانت ذات يوم تدلل عمن يبيعها سلاحاً نووياً، ووجد العقيد معمر القذافي نفسه مستعداً للارتباط الاستراتيجي بالصين، ان هي زودته ولو بقنبلة نووية صغيرة، إلاَّ انه سيبقى إلى فترة ليست قصيرة حديث المجالس الإسلامية بين التندر والإعجاب، وهذا ما سبق ان حدث مع الرئيس صدَّام حسين عندما اشتدت وطأة المماحكة عليه في المرحلة بين غزو الكويت وانتزاعها منه بقوة التحالف الدولي - الإسلامي - العربي، الذي قاده الرئيس جورج بوش الأب، بعدما اجازت له ذلك القمة الاستثنائية التي دعا اليها الرئيس حسني مبارك واستضافها في القاهرة يوم 10 اغسطس (آب) 1990، وتحفَّظت على قراراتها اليمن وفلسطين والسودان وموريتانيا، وعارضتها تونس إلى جانب العراق، فيما لم تشارك تونس في تلك القمة. ففي مساء يوم الاثنين 10 سبتمبر (ايلول) 1990 اطلق الرئيس صدَّام مبادرة تضمنت «استعداد العراق لتزويد المحتاجين من بلدان العالم الثالث ببترول العراق من غير ثمن.. وإذا ما تعذَّر علينا نقل النفط في ناقلاتنا فعلى من يريد تدبير ذلك على حسابه الخاص». ولم يتمكن احد من المحتاجين وهم بنسبة 99 في المائة من دول العالم الثالث من التزود بنفط العراق، اذ من سينقل ومن سيحمي الناقلات ان هي توفرت. وانتهى الأمر بالمبادرة التي استهدفت «النفط مقابل التأييد» إلى «النفط مقابل الغذاء»، مع ما رافق الصيغة الثانية من فضائح وسمسرات ونهب طالت نجل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان، وعشرات من سماسرة لعبة الأمم والتلاعب بأقدار الشعوب.

وبعد خمس عشرة سنة وفي الشهر نفسه وتقريباً في الاسبوع نفسه، تحدث عملية استنساخ من الجانب الايراني للفكرة الصدَّامية، ويكون المستنسِخ النجادّي أكثر سخاء.. إنما من دون أن يكون في الإمكان تصدير «المعرفة النووية»، من عارفيها الإيرانيين إلى جاهليها الإسلاميين.

وفي انتظار ما في الإمكان تصديره من المسلمين القادرين على التصدير، إلى المسلمين المحتاجين إلى الاستيراد، عدا «الثورة» التي لم تُطعم من جوع ولا أمنت من خوف، وعدا النفط الذي يمكن اهداؤه لفظاً و«المعرفة النووية» العسير نقلها، نتمنى لأمة المليار ونصف المليار رحمة رب العالمين، والإيمان بأن لحظة الإنفراج تأتي من عنده... وليست مِن عند اصحاب أكثر الاقتراحات استحالة.