أوراق أميركية

TT

لست من محترفي، أو حتى هواة، الهجوم على أميركا، فقد عشت فيها سفيراً سبعة أعوام وبعض العام، وأتيحت لي الفرصة لأجوب أنحاءها وألتقي الكثير من أبنائها مسؤولين أو مواطنين عاديين، وأن أتعرف على نواح مختلفة من الحياة فيها وأدرس نظام الحكم فيها وأسلوب اتخاذ القرار والدور الذي تضطلع به في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جماعات الضغط التي تمتد اذرعتها إلى دوائر الحكم والكونجرس والصحافة ومراكز الفكر.

وكانت النتيجة لكل ذلك أن هناك الكثير في ذلك المجتمع يستحق التقدير، من نشاط فني وسياسي وفكري يموج بالتيارات الثرية المثرية، وفي نفس الوقت فإن كل ذلك لا يكاد يصل إلى المواطن العادي القابع في أرجاء تلك القارة الفسيحة، والذي يجهل الكثير عن العالم ولا يكاد يهتم إلا بمشاكله المحلية، تاركاً أمر التعامل مع العالم الخارجي لفئة قليلة «هناك في واشنطن ونيويورك وربما سان فرانسيسكو».

وقد كنت خلال فترة إقامتي في واشنطن أتحرك بين قطبين: قطب التعرض لهجمات ضد مصر وسياستها الاستقلالية، وحرصها على أن تظل حرة في قرارها تختار أصدقاءها وفق مصالحها، هذه الهجمات والتهجمات لا تنبع في الواقع من مصالح أميركية، بل هي نتاج نشاط جماعات ضغط ليست كلها يهودية أو إسرائيلية، بل فيها جماعات اقتصادية وعسكرية وغيرهما يعز عليها ألا تكون مصر جزءاً من منظومة أصدقاء أميركا «الخاصين» الذين لا يردون لها طلباً أو يرفضون لها رغبة.

والقطب الثاني كان الحرص على إقامة علاقات طيبة وصحية تسير في طريق مزدوج يحقق مصلحة الطرفين، في إطار الندية والمنفعة المتبادلة والمشتركة. ومن هنا فإن مصر كانت تختلف مع الحرص على ألا تتصادم، وتتعاون مع الحرص على ألا تنجر إلى ما لا تريد، وتتحاور مع الحرص على رفض أي إملاء أو ضغط. وكان ذلك نابعاً من ضمير السفير علاوة على أنه يلخص التعليمات التي كانت لديه صريحة واضحة صارمة، وهي ما زالت التعليمات إلى السفير، وكان ذلك أيضاً النبراس الذي ينير الطريق أمامي عندما كنت وزيراً حريصاً على الخط الذي ترسمه الدولة ويحدده الرئيس بعد التشاور مع مختلف الأجهزة.

ويتضح من هذا كله صعوبة إدارة العلاقة بين دولة عظمى، بل الدولة الأعظم، التي يعزيها غرور القوة، وتعميها أحياناً اعتبارات مصلحتها الأنانية، تجهل أكثر مما تعرف عن مشاعر وسيكولوجية الشعوب الأخرى وثقافاتها وجوهر حضاراتها ومصالح دولها، وبين دولة مؤثرة تعاني مشاكل كثيرة ولكنها دائماً وفي كل الظروف حريصة على ذاتها وعلى دورها الوطني والقومي والإقليمي ينبع من مصالحها ويتفق مع شخصيتها ويعكس النظرة الدولية إليها كقوة استقرار وتقدم، لا تلين ولا تناطح دون مقتضى، ترفض الضغط، وتلفظ القهر، وتقاوم الظلم، وتساند العدل، وتنطق بالحق.

هذه المقدمة رأيتها ضرورية، حتى إذا كانت طويلة، لمن لاحظوا (مؤيدين أو معارضين، متحمسين أو مستنكرين) أني كثير وعنيف الانتقاد للولايات المتحدة، مكرراً أنني وأعتقد أن الكثيرين مثلي لا نكره أميركا ولكننا نكره ونستنكر ونرفض جوانب من سياساتها، خاصة منذ أن وقعت تلك السياسات أسيرة لتيار متعصب يعظم السوءات ويفسد أية إيجابيات، فينشر بسياساته الخاطئة البؤس والدمار في العالم، ويدعم الظلم بأكثر مما كانت تدعمه إدارات سابقة كنا ننتقدها لعلها تستجيب، ويكاد يطفئ نار الشعلة التي يرفعها ذلك التمثال الذي يقف على باب ميناء نيويورك والتي كان الكثيرون يتصورون أنها شعلة الحرية.

وبدت أميركا، بتأثير هذا التيار، تتكبر على الدول وتهمل مشاعرها وتعطيها الدروس فيما يجب أن يكون، وكأنها لا ترى إلا القذى في عيون الآخرين، وتنسى أو تتناسى الأوتاد في عيونها هي، ومن شاكلته ما يلي:

1ـ انتشار الفساد الذي ظهرت صورة منه في نشاطات شركة «هاليبرتون» ذات الصلات الوطيدة بأركان عليا من الحكم، وإهدار الحكم العسكري الأميركي في العراق مبالغ ضخمة في أوجه تنقضي عنها الشفافية، وثبوت قيام مسؤولين عراقيين اختارتهم إدارة الاحتلال، ومنهم مزدوج جنسية عراقي بولندي تولى الإدارات العسكرية، باختلاس مليار دولار مما أدى إلى صدور أمر باعتقال وزير الدفاع السابق كشريك في المسؤولية في هذه السرقة الكبرى، ثم ما أعلن مؤخراً عن القبض على المسؤول عن مشتروات الدولة في البيت الأبيض بتهمة الكذب وعرقلة التحقيق الجنائي حول أوجه الإفساد، التي قام بها أحد أعمدة اللوبي الانتخابي الجمهوري في تعاملات مع الحكومة الاتحادية لشراء بعض ممتلكاتها.

2 ـ تقرير اللجنة التي رأسها الرئيس الأسبق جيمي كارتر ووزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر والذي يطالب بتعديل نظام الانتخاب، لإعادة الثقة به بعد أن ثبت ما اصطلح على تسميته «تجاوزات»، وترى اللجنة ضرورة اشتراط تقديم الناخب بطاقة إثبات شخصية عليها صورته، وعدم الاكتفاء بأجهزة التصويت الإلكترونية، بل ضرورة أن ينتج عنها دليل ورقي حتى يمكن المراجعة، وقيام جهاز محايد بالإشراف على الانتخابات.

وأنا أسوق تلك الأمثلة ليس لأبرر تجاوزات تحدث في دول أخرى على أساس نظرية أرفضها تقوم على أن الجميع في الهم معاً، وإنما لأقول إن أميركا يجدر بها أن تتعامل مع العالم ببعض التواضع وتتخلى عن التفاخر والكبر. وقد أعجبتني تعليقات صحفية أميركية على خطاب الرئيس بوش الأخير أمام قمة الأمم المتحدة حين وصفته بالنزوع أخيراً إلى التواضع النسبي، مقارنة بأسلوبه السابق في التعامل مع العالم بتعال أغضب الأصدقاء بل الحلفاء.

وإذا انتقلت باختصار إلى بعض السياسات التي تؤثر بالسلب على النظرة للولايات المتحدة في مصر والعالم العربي، وهناك غيرها الكثير مما يؤثر أيضاً على انخفاض شعبية الإدارة الأميركية لدى حلفائها بل لدى شعبها ذاته إلى درجة غير مسبوقة، فإني أريد أن أتوقف عند ما يلي:

* في العراق الذي كان من المفروض أن يصبح على حد قول واشنطن مثالاً يحتذى في الديمقراطية وحسن الإدارة، نرى العنف يزداد ضراوة، سواء من جانب قوات المقاومة ضد الاحتلال أو عصابات الإرهاب التي كانت بعيدة عن البلاد حتى جاء الاحتلال ينشر الفوضى مع الدمار، ونرى الفساد وسوء الإدارة والاختلاسات وانعدام الخدمات الأساسية للمواطنين، ونرى بذور الانقسام والفتن الطائفية تتجذر وازدياد معاناة الشعب العراقي الذي وعدوه بالمن والسلوى فإذا به يفتقد أساسيات الحياة، ويتهدد أمنه وسلامة أراضيه ووحدته. وعندما يدلي رئيس الجمهورية بتصريح يتنبأ فيه بإمكانية انسحاب جزء من القوات الأجنبية في وقت قريب يسارع البيت الأبيض إلى مطالبته بسحب تصريحاته اعترافاً منه بأنه فشل في إعداد القوات العربية وأنه عاجز عن الاستجابة لمطالب شعبية بعودة الجنود الأميركيين إلى وطنهم.

* ويتضح أن مقتضيات الحرب من جنود وأموال تركت مدينة «نيو اورلينز» بلا موارد وأفراد لمواجهة آثار الإعصار المدمر «كاترينا»، بالإضافة إلى ثبوت عجز الإدارة المحلية عن إدارة الأزمة، التي أوجدت مشاعر من الغضب أحيت دعاوى التفرقة العنصرية والطائفية، وكل هذا يؤثر على السمعة التي تحاول أميركا أن تضفيها على نفسها بأنها الأقوى والأقدر والأفضل تنظيماً في مواجهة الأزمات. وقد أعاد ذلك التذكير بما يثبت كل يوم من أن أجهزة الاستخبارات الأميركية على تعددها واتساعها فشلت في حماية البلاد من كارثة ومأساة 11 سبتمبر التي تم التدبير لها لأسابيع وأشهر من أفراد داخل أميركا ذاتها.

* ونقطة أخرى سوف أكتفي بها حالياً لضيق المساحة المتاحة، هي موقف أميركا من السلاح النووي الكوري، وضغطها على بيونج يانج بالترهيب والترغيب، حتى أعلنت تلك الدولة عن تدمير أسلحتها النووية والعودة إلى اتفاقية منع الانتشار، (حتى إذا كان الموضوع شابته بعد ذلك صعوبات)، وهنا يثور السؤال إذا كانت أميركا قادرة على إجبار كوريا الشمالية على ترك التسلح النووي، ومستمرة في الضغط على إيران، رغم عدم ثبوت أية نوايا من جانبها للتسلح الذري، السؤال هو: ماذا عن إسرائيل ولماذا لا تتعامل معها واشنطن بما يجعلها تتخلى عن سلاحها النووي، الذي يشكل تهديداً للأمن والاستقرار في المنطقة، لما يمثله من تأكيد لازدواج المعايير وما يستتبع ذلك من آثار.