المثقفون العرب.. والتصفيات الجسدية

TT

لا أعرف لماذا شعرت بأني أصبت في الصميم عندما سمعت بمحاولة اغتيال الإعلامية اللبنانية السيدة: مي شدياق. ربما لأنها امرأة؟ أو ربما لان وجهها صبوح كعنوان برنامجها: نهاركم سعيد؟ أو ربما لأنها أعادتني سنوات إلى الوراء عندما احترقت أمي أمام عيني وأنا صغير ولكن لأسباب اخرى لا علاقة لها بالاغتيال.. فمن يغتال امرأة تقول لك: نهارك سعيد؟ من هو الذي بلغت به النذالة إلى حد السقوط إلى مثل هذا الدرك الأسفل من الوحشية البربرية؟ ثم ان النساء لا تُقْتَل عادة في العالم العربي. والاغتيال على حد علمي، محصور بالرجال. وبالتالي فهو مخالف للتقاليد العربية ـ الاسلامية أو المسيحية الأصيلة. فهل هو من صنع الخارج يا ترى؟ لا أعرف. مهما يكن من أمر فإن هذا يعني ان آخر وازع اخلاقي يمسك الكون ويتحكم بالعلاقات البشرية قد سقط. كل شيء مباح بعد الآن.. ولا زائد لمستزيد..

أكتب هذه الكلمات على الرغم من اني لم اسمع باسم مي شدياق إلا في يوم الاغتيال ولم أر برنامجها حتى الآن ولو مرة واحدة. فقط رأيت صورتها في الصحف أو على شاشات التلفزيون. ولكن هذا لا يغير في الأمر شيئاً. فالخطوط الحمر في لبنان انتهكت كلها بمحاولة تفجير الجسد الغض لامرأة حسناء تقول لنا جميعاً بوجه بشوش: نهاركم سعيد. فمن الذي يستطيع ان يشوه جسد المرأة أو وجهها ويديها؟!..

ربما كانت مي شدياق زوجة أو أماً حنوناً أو أي شيء آخر، لا أعرف.. كل ما أعرفه هو ان آخر وازع أخلاقي كان لا يزال صامداً حتى هذه اللحظة قد سقط. فالمرأة يمكن ان تغتال بعد الآن. ويُغتال معها الوطن والجمال والأنوثة والمحبة. يُغتال معها الوجه المشرق للكون.

هناك كابوس أسود مرعب يلاحق لبنان والوجود الانساني في العالم العربي كله. هذا الكابوس هو عبارة عن قوة جهنمية اخطبوطية سوف تظل تفتك بنا فتكاً ذريعاً حتى تشبع منا.

العالم العربي كله يتحول إلى أشلاء في فلسطين إلى لبنان إلى العراق الى الجزائر حتى الأمس القريب، الى السودان.. والحبل على الجرار.

ويتساءلون: لماذا يحصل بنا ما يحصل؟ أما لهذا الليل من آخر؟ والجواب: هو اني اخشى ان يكون آخره طويلا والا نستطيع الخروج من النفق المظلم قبل ان تسقط آلاف الضحايا ـ هل أقول الملايين؟ ـ على الطريق. الخبراء يقولون لك: لن تستقر أوضاع المنطقة قبل ان يُحَلّ الصراع العربي الاسرائيلي ويحصل التطبيع مع اسرائيل أو تندمج في المنطقة بشكل طبيعي. فما دام العرب يرفضونها بهذا الشكل القاطع المانع فلن يناموا قريري العين لحظة واحدة. وهذا صحيح إلى حد كبير. ولكن هذا شيء لا يتوقف أمره على العرب فقط وانما على القوى الكبرى التي تتحكم بالعرب وغير العرب: أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالدرجة الأولى. والشيء الذي نسيه الخبراء هو ان التطبيع لن يحصل الا بعد تحقيق الحد الأدنى من العدل والانتصاف للمظلوم. وقد كنا سائرين على هذا الطريق من خلال النيات الطيبة والتوجهات الشجاعة لحكومة الرئيس محمود عباس لولا ان حماس والقوى الارتكاسية الاخرى كانت له بالمرصاد.

أقول ذلك دون انسى خطورة اليمين المتطرف الاسرائيلي وتوجهاته العدوانية. ولكن التطرف يدعم التطرف موضوعياً ويشد من أزره.

وهناك شيء آخر نسيه الخبراء: هو ان التطبيع الخارجي على أهميته لا يكفي لكي تستقر أمور المنطقة وانما ينبغي ان يحصل ايضاً تطبيع داخلي: أي بين المسلمين والمسيحيين، بين السنة والشيعة، بين العرب والبربر، الخ.. وبالتالي فهناك تطبيعات تنتظرنا على الطريق لا تطبيع واحدا وان كان التطبيع الأول هو الأخطر لأنه من نوعية مختلفة.

والسؤال المطروح الآن هو التالي: هل يمكن ان تحصل هذه «التطبيعات» الداخلية بدون تصفية حسابات أو «فشة خلق» على الأقل؟ وجوابي هو ان تجربة الأمم المتحضرة التي عانت سابقاً من نفس المشاكل تقول لنا: لا. من هنا الخوف من ان يحصل سفك دماء كثير ومجازر قبل ان تستقر الأمور ونصل إلى بر الأمان. وأكبر دليل على ذلك تجربة العراق. فكل الاحتقانات التاريخية تنفجر دفعة واحدة. ولكن هناك «عراقات» اخرى على الطريق. وبالتالي فالخروج من النفق المظلم له ثمن ينبغي ان يُدفع والا فلن نخرج منه. وكفانا مراهقات فكرية ومزاودات وشعارات سطحية لم تعد تقنع احداً.

قد يقول قائل: ولكن لبنان دفع الثمن باهظاً من خلال حرب أهلية مدمرة استمرت خمسة عشر عاماً. ألا يكفيك ذلك؟ والجزائر ذبحت بعضها بعضاً على مدار «العقد الأسود» كما يسمونه هناك وسقطت مئات الآلاف من الضحايا. وكان في طليعتهم المثقفون والصحافيون والكتَّاب. واحياناً كانوا يُذبحون أمام أطفالهم ذبح النعاج. ألا يكفيك ذلك ايضاً؟ ألم يشبع التاريخ انفجاراً في العالم العربي؟ وأكاد أقول: آسف ايها السادة! أعتقد ان احتقانات التاريخ العربي لم تنفجر كلها بعد. وأعتقد اننا لا نزال في بداية البدايات..

وبالتالي فهناك كابوسان يجثمان على صدرنا أيها السادة لا كابوس واحد. من هنا سر شقائنا وعذابنا وليلنا الطويل. فكابوس واحد اكان يكفي لكي يكسر ظهرنا، فما بالك بالاثنين معاً؟

ولكن الشيء الذي يحزّ في نفسي أكثر من كل ذلك، الشيء الذي يشلّ عزيمتي ويجعل الدنيا تسود في عيني هو اني لا أرى فكراً آخر جديداً يتراءى في الأفق. أقول ذلك وأنا اعتذر لبعض المثقفين العرب المتناثرين في الأوطان والمنافي فهم منارات المستقبل. ولكنهم لا يزالون أقلية حتى الآن. فالتيار العام الطاغي لا يزال هو تيار القومويين والأصوليين، والغوغائيين والديماغوجيين. لهذا السبب أقول بأن المعركة لا تزال طويلة ونهاية النفق المظلم لا تزال بعيدة. ولهذا السبب ايضاً فإن اغتيال المثقفين ـ الإعلاميين سوف يستمر. فما دامت مجتمعاتنا لا تزال تعيش مرحلة انتقالية عسيرة: أي مرحلة العبور التاريخي الذي ينتقل بنا من حالة الوحشية والهمجية الى حالة الحضارة والمدنية فإن نزيف الدم لن يتوقف. وسوف يصيب المثقفين وغير المثقفين. لقد دهشت عندما اطلعت على أفكار الفيلسوف الفرنسي «ميشيل سير» والتي يقول فيها ما معناه: لم ينم مفكر فرنسي واحد قرير العين طيلة القرون السابقة على انتصار الحداثة: أي طيلة القرون السادش عشر، والسابع عشر، والثأمن عشر، بل وحتى التاسع عشر. كلهم تعرضوا للضغط، أو التهديد، أو النفي، أو الاعتقال في سجن الباستيل، أو الاغتيال والتصفية الجسدية. كلهم عاشوا مذعورين بشكل أو بآخر. كلهم كانوا ملاحقين وبالاخص المسكين روسو. وبالتالي فلا ينبغي ان يستغرب المثقفون العرب ما يحصل حالياً. فهذا شيء طبيعي ما دمنا لم ننجح بعد في تحقيق العبور الحضاري الكبير: أي في الانتقال من حال الى حال. ولو انهم قرأوا سيرة توماس مور، أو هوبز، أو جيوراد نوبرينو، أو غاليليو، أو ديكارت، أو فولتير، أو ديدرو، أو جان جاك روسو، أو حتى كانط وهيغل، الخ لما استغربوا ما يحصل بنا حالياً. فهل يشكل لهم ذلك عزاء يا ترى؟ لا اعرف. كل ما اعرفه هو انه يشكل لي أكبر وأعظم عزاء ويزيد من عزيمتي على مواصلة المسيرة حتى النهاية.