بوتين الصاروخي.. يكسر قاعدة الرئاسات العربية

TT

ما الذي يجعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرفق قوله يوم الثلاثاء 27 سبتمبر (ايلول) 2005 بأنه لن يجدد الرئاسة، مؤكداً انه سيعارض تعديل الدستور الذي يتيح له تجديد الولاية الثانية، التي تنتهي عام 2008، بمفاجأة اوردها على النحو الآتي: «نحن في صدد التخطيط وسنضع في الخدمة صواريخ استراتيجية جديدة بالغة الدقة لا يملكها أيّ كان في العالم، حيث انها تفوق سرعة الصوت وقادرة على تبديل مسارها وارتفاعها، وهي انظمة صواريخ لا تُقهر عملياً، بما في ذلك بالنسبة الى انظمة الدفاع المضادة للصواريخ التي طورتها بعض الدول الشريكة، وأنه شارك اخيراً في تجارب لصاروخ بالغ الدقة يضرب دائرة واسعة...»؟

الذي يجعل بوتين يقول ذلك أحد أمرين:

الاول هو أنه يريد إبلاغ الشعب الروسي بأن رئاسته كانت مثمرة على صعيد شأن روسيا في مواجهة الدول الكبرى الاخرى، وانه اعاد الى الدولة هيبتها، فغدت مؤهلة لأن تكون عظمى؛ شأنها في ذلك شأن اميركا. كما انه يريد إبلاغ الشعب بأن مبيعات الاسلحة الروسية التي بلغت عام 2004 ما قيمته خمسة مليارات دولار، انما اُنفقت على تطوير القوة العسكرية لروسيا. وكأنما قصْده من ذلك القول ان الكلمة هي للأقوى وليست للقوي في هذا الزمن، وانه عندما تعود روسيا هي الأقوى، فإن الشأن الدولي لها سيصبح سهل المنال.

الأمر الثاني هو أن بوتين يريد من مفاجأته هذه القول ما معناه انه لا يريد تسجيل سابقة تعديل الدستور من اجل تجديد ولاية ثالثة له، لأن معنى ذلك انه سيحوِّل نفسه الى قيصر جديد، على اساس ان التجديد للمرة الثالثة قد يعقبه التجديد مرة رابعة وخامسة، ما دام في سن شابة، وما دام الأمر لا يحتاج الى اكثر من تعديل دستوري جديد لن يكون صعباً، لأن التعديل الاول هو انتهاك ما هو محرَّم او إفقاد للعذرية. أما وقد بات المحرَّم محلَّلاً ولم تعد العذرية عذرية، فإن تعديلاً جديداً على الدستور لن يكون مستهجَناً.

لكن، في الوقت نفسه، نلاحظ ان رفاق بوتين وصفوا قوله هذا بالمفاجأة الصاروخية التي اشرنا اليها، قد يكون تكتيكاً ذكياً من جانبه يستهدف من ورائه جعل المواطن الروسي يقول بينه وبين نفسه: من الافضل للبلاد؛ ان يبقى هذا الرجل في سدة الرئاسة، ما دام على هذه الثقة بالنفس والعزم على اعادة الشأن العسكري لروسيا.

ما يلفت الانتباه أن الرئيس بوتين يقول ما قاله في وقت هنالك ضعضعة ملحوظة في الادارة الاميركية، ناشئة عن المأزق الذي تعيشه في العراق وعن الإخفاق في مواجهة اعاصير الطبيعة، فضلاً عن أزمات عالقة بينها وبين كل من سورية وإيران. كما يلفت الانتباه ان المفاجأة الصاروخية للرئيس بوتين تأتي في وقت يحدث انتعاش في التعاون السوري- الروسي على صعيد التسلح، متزامناً مع التعاون الايراني- الروسي النووي الذي لم ينقطع. ومثل هذه المفاجأة تشكل شبه طمأنينة للدولتين الحليفتين سورية وإيران، المستهدفَتين من اميركا ومعظم الدول الاوروبية، لأسباب تتعلق بالأمن الاسرائيلي من جهة وبمعرفة ظروف واقعة اغتيال الزعيم اللبناني- العربي- الدولي رفيق الحريري، وما تلتها من عمليات اغتيال شملت سياسيين ولبنانيين.

وعلى هامش ما اوردناه، يبدو الرئيس بوتين من خلال مفاجأته الصاروخية وزهده غير المحسوم في مسألة الترؤس، يخطط لما هو ابعد من ذلك. ونفترض ان هذا «الأبعد» هو التقاعد الرئاسي الذي ربما يكون ترؤس مجلس الوزراء، في حال تحققت المفاجأة التالية؛ وهي توحيد الروسيتين: روسيا الأم وروسيا البيضاء. وبطبيعة الحال فإنه عندما يحدث هذا التوحد أن يكون رئيس الدولة بالتداول، او يكون الرئيس من روسيا البيضاء، وفي صيغة من يملك ولا يحكم على نحو ما هو حاصل في بريطانيا وفي اسرائيل وغيرهما، ويكون منصب رئيس الوزراء هو الأقوى والفاعل. ومثل هكذا منصب يلبي تطلعات بوتين خير تلبية. ومِنْ هنا، يمكن تفسير مرامي قوله: «لا اعتبر أن مهمتي هي البقاء الى الأبد في الكرملين لكي يبقى الوجه ذاته يظهر على التلفزيون. ان هدفي ايجاد ظروف لتنمية البلاد على المدى الطويل. ظروف يقود فيها البلاد مديرون شبان متعلمون وأكفاء. ولذا أعتقد أنه سيكون من الخطأ إحداث اي تغييرات كبيرة في التشريعات الحالية، وخصوصاً في دستور روسيا الاتحادية. وفي ما يخصني، فكما يقول العسكريون، سأجد لنفسي موقعاً».

وتبقى الاشارة الى انها ليست المرة الاولى التي يتحدث بوتين باللغة الصاروخية، فقد سبق ان اشار الى ذلك من قبل.. إنما من دون التأكيد على ان الصاروخ موضوع ذلك الحديث ليس مثل هذا الجديد الذي يصعب على اميركا قهره. لكن في الوقت نفسه تبقى المفاجأة ليست محسومة، ما دامت لا تزال في دائرة الكلام، وتبقى صواريخ بوتين الى ان يعلن عن تجربة ناجحة لها مثل صواريخ ايران التي طالما هدد بها آيات الله اميركا وإسرائيل، ومثل صواريخ عراق صدَّام حسين التي لم تُستعمل على النحو المطلوب، فألحقت بعض الأذى بإسرائيل مقابل رمي العراق في المجهول على نحو ما يحدث منذ عام 1991، وما يصعب التنبؤ بنهايته.

تبقى الاشارة ايضاً الى ان المفاجأة الصاروخية لم يعلنها بوتين في عرض عسكري تستوجب هيبة المناسبة تسجيل كلام يلفت الانتباه، ويترك في الافق الكثير من المشاعر القلقة لدى الآخرين، وانما أعلنها في سياق لقاء تلفزيوني، وبذلك بدا كمن يعرض برنامجه الرئاسي لما بعد عام 2008. كما أنه في مفاجأته هذه بدا كمن يعاود تشجير غابات الصواريخ الاستراتيجية التي سبق ان تفاهمت الادارة الاميركية في عهد غورباتشوف وفي عهد يلتسين على تفكيكها، إنما هذه المرة بسلالة جديدة قد يفهمها العم سام اكثر من كونها بلغة «رامبو». وما يعنينا كدول عربية، ليست قلقة من الصاروخ الذي لا يُقهر لأنه لن يوجَّه الينا، من كلام بوتين في شأن التعديل الدستوري بغرض التجديد، هو أن «القيصر» الروسي الجديد يكسر قاعدة لها صفة القداسة في المجتمع الرئاسي العربي، وهو التمديد احياناً أو التجديد المستمر الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولاً. لذا له كثير الشكر... إن هو صَمَد وصدَقَ.