انتباه: أنفلونزا الطيور على أبوابنا

TT

حين قرأت في صحف الصباح أن خطة أميركية وضعت في 400 صفحة لمكافحة وباء أنفلونزا الطيور، كان أول ما خطر لي السؤال التالي: هل تكون الجهات في العالم العربي معنية بالأمر، وكيف؟ لقد اقترب منا الوباء بصورة نسبية، بعد وصول مقدماته إلى تركيا، الأمر الذي يعني أنه بات يقف ببابنا، لذلك لست أخفي أن لدي أكثر من سبب للقلق والتخوف من ذلك الاقتراب، أول هذه الأسباب، أن العالم العربي لم يتعود أن يتعامل بشفافية وصراحة مع الكوارث التي تحل به، فهناك مدرسة كاملة في الإدارة ترفع شعار «كله تمام»، لكي لا تكدر أهل القرار من ناحية، ولأنها لا تثق في إدراك الجماهير من ناحية ثانية، وباسم الطمأنة والتهدئة فإن سدنة تلك المدرسة يخفون الحقيقة عن الجميع، بمظنة أن ذلك يساعدهم على التعامل مع الموقف في هدوء، وبعيداً عن الضغوط، هم لا يعترفون بحق الناس في المعرفة، فضلا عن أنهم لا يحسنون الظن بهم، ويرون أنهم يجب أن يظلوا تحت الوصاية طول الوقت، لذلك فإن كل همهم ينصرف في مواجهة الكوارث، الى التهوين من الأمر أو إخفاء معالمه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وذلك مسلك خطر، خصوصاً في حالة الأوبئة، لأن الإسراع في إعلان الحقيقة وتبادل كل المعلومات بخصوصها مع المجتمع والدول المجاورة والمنظمات الدولية، من أهم العوامل التي تساعد على محاصرة الوباء ومكافحته.

إننا مثلاً نداري على الكوليرا في بلادنا، ونخفي أخبارها عن العالم الخارجي، لسبب آخر إضافي سمعته من بعض أهل الاختصاص، هو أن الإشهار في هذه الحالة يمكن أن يدفع منظمة الصحة العالمية إلى إعلان البلاد منطقة موبوءة، الأمر الذي لا بد أن يؤثر على حركة السياحة، وذلك له مردوده السلبي على الاقتصاد القومي! ولأن الأمر كذلك فإن الجهات المختصة لا تعلن عن ظهور الكوليرا، وإنما تتحدث ـ إذا دخلت الواقعة ـ عن ظهور أعراض لما أسموه «أمراض الصيف»، وتظل وسائل الإعلام تتداول المصطلح، من دون أن يدرك أحد في الداخل أو الخارج أن الكوليرا هي المقصود به، وبطبيعة الحال فإن أحداً لن يفكر في هذه الحالة في اتخاذ الاحتياطات اللازمة للوقاية من المرض.

لا أستبعد أن يتم التعامل مع أنفلونزا الطيور بنفس الأسلوب، إذا حل الوباء بديارنا لا قدر الله، فتتحدث وسائل الإعلام، عن ظهور حالات «أمراض الشتاء»، لأن فيروسات هذا النوع من الأنفلونزا الخطرة تعيش في المناطق الباردة.

لست أنسى في هذا الصدد واقعتين اخريين ترفعان من وتيرة القلق عندي، الأولى أن مرض الحمى المتصدعة ظهر في أحد الأقطار العربية، وأصاب بعض الماشية وانتقلت عدواه إلى نفر من الناس، فنفقت الماشية ومات المصابون، وأعلن وزير الصحة أن ثمة مرضاً ظهر في البلاد، لكن وزير الزراعة نفى الخبر، وتطوع بعض البيطريين وقالوا إن المرض موجود بالفعل، ولكنه ينتقل من البشر إلى البشر (وهذا لا يحدث علمياً) وليس من الماشية إلى الناس، وأراد الوزير وموظفوه البيطريون أن يوهموا الجميع بأن الثروة الحيوانية بخير، ولم يكن ذلك صحيحاً.

في الواقعة الثانية أن بعض الخبراء في القطر ذاته، أرادوا أن ينظموا مؤتمراً لمناقشة موضوع انتشار مرض جنون البقر، حين ظهرت أعراضه في إنجلترا قبل سنتين، وكانت الدولة المعنية تستورد كميات كبيرة من لحومها من هناك، وإذ أراد أولئك الخبراء أن يتحققوا من أن المرض لم يصل إلى البلد، فإنهم أوفدوا من يمثلهم لعرض الفكرة على وزير الزراعة، وحين التقى الوزير المبعوث واستمع إلى كلامه، كان رده مفاجئاً، إذ قال له: لماذا تحاولون تذكير الناس بأمر كنا قد استرحنا كثيراً حينما لاحظنا أنهم نسوه؟ وكان السؤال كافياً في التعبير عن عدم الترحيب بفكرة المؤتمر، الذي لم يقدر له أن ينعقد!

السبب الثاني للقلق، ان الأجهزة البيروقراطية في العالم العربي بطيئة الحركة في المسائل التي تخص عامة الناس، في حين أنها تهرول عندما يتعلق الأمر بمصالح الخاصة، إذ هي في العادة لا تتحرك إلا حينما يحل القضاء ويشيع الوباء، وفي مواجهة فيروس أنفلونزا الطيور فإن الوقاية أهم بكثير وأجدى من العلاج، وهذه الوقاية تتم عن طريق التطعيم لتحصين الناس في وقت مبكر، وتحضير اللقاح اللازم لمكافحة الأنفلونزا يحتاج إلى وقت يقدره الخبراء بأربعة أشهر، هذا إذا توافرت الموارد المالية اللازمة لإنتاجه، معنى ذلك أن الوقاية تتطلب وقتاً، وإذا كنا جادين فيها فينبغي أن تتحرك أجهزتنا الآن، وأن تدبر لها الاعتمادات اللازمة على الفور، ومن أسف أننا لا نرى في الأفق ما يوحي بأن الأمر مأخوذ على محمل الجد من هذه الزاوية، وأن هناك استعداداً من أي نوع لمواجهة الاحتمال الأسوأ.

السبب الثالث للقلق، اننا مقبلون على فصل الشتاء، وقد سبق أن ذكرت أن البرد هو الجو المناسب لانتشار الفيروس، الأمر الذي يتطلب الاستعجال في اتخاذ تدابير وقف انتشار الوباء وقطع طريق وصوله إلى العالم العربي قبل أن يشتد البرد فيه، والتعجل هنا مطلوب، لسبب آخر مهم للغاية، هو أن أنفلونزا الطيور إذا أصيب إنسان بفيروسها فإن أعراض المرض لا تظهر عليه بسرعة، خصوصاً أن الإصابة لا تؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة، وهو ما يعني أن الوباء يمكن أن يعبر حدود أي بلد ولا ينكشف أمره، إلا في وقت متأخر، وذلك من مكامن الخطورة فيه.

حين تحريت الأمر من المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالقاهرة، قالوا إن الفيروس حتى الآن ينتقل من الطير إلى الإنسان، وليس من الإنسان للإنسان، الأمر الذي يعني أنه لم يصبح وبائياً بعد، ولكن لأن الخنازير يمكن أن تصاب بأنفلونزا الطيور، كما يمكن أن تصاب بفيروس أنفلونزا البشر، فأخشى ما يخشاه خبراؤهم أن يتم التلاقح بين الفيروسين في الخنزير، فيتولد فيروس جديد يمكن أن ينتقل إلى الإنسان، خصوصاً أن الخنازير تعيش مع الآدميين في بعض دول جنوب شرق آسيا في نفس الغرفة، وإذا ما وقع المحظور وظهر ذلك الفيروس الجديد، فإن المرض يمكن أن ينتقل من الإنسان إلى الإنسان، وتلك جانحة مخيفة لا ريب.

حتى الآن هم لا يرون سبباً للذعر ولا للمبالغة في آثار الوباء، لأن الذين أصيبوا به في جنوب شرق آسيا 116 شخصاً، لقي 60 منهم حتفهم، في الوقت ذاته فإنه أدى إلى نفوق والتخلص من ملايين الطيور، لكنهم بالمقابل يشددون على أهمية الحذر والمسارعة إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحصاره وتحصين الناس ضده، ذلك أن مجرد ظهور الوباء في أي مكان يعني مباشرة أن ثمة خطراً في كل مكان، وهذه العبارة أطلقها وزير الصحة والخدمات الأميركي مايكل ليفيت، الذي بدأ في الأسبوع الماضي جولة في دول جنوب شرق آسيا، لمعاينة الموقف على الطبيعة، وبحث سبل التعاون في القضاء على الوباء والتصدي له.

لك أن تتصور الترتيبات التي قصدت فيها الخطة الأميركية لتحديد كيفية التعامل مع احتمالات الوباء، بسط تلك الخطة في 400 صفحة يفترض أنه تكفل بتغطية التفاصيل الدقيقة لكل شيء، الأمر الذي لا بد أن يحثنا في العالم العربي على أن نتحرك ونفعل شيئاً على وجه السرعة، لأن ترتيبات المواجهة التي شرحتها تستغرق وقتاً، خصوصاً ما تعلق منها بتوفير اللقاح اللازم للوقاية.

حين سألت خبراء مكتب الصحة العالمية، عما يتعين علينا أن نفعله في العالم العربي نصحوا بما يلي:

* استنفار الجهات الصحية المعنية، لكي تعنى بالأمر اليوم قبل الغد، عن طريق تخصيص فريق عمل من الخبراء في كل وزارة للصحة، يكون هذا الموضوع من مسؤوليته وشاغله الوحيد، وهذا الفريق يتولى تحديد الاعتمادات المالية المطلوبة لإنتاج لقاح الوقاية، ولتوفير الأدوية اللازمة للعلاج، ويدخل في اختصاص الفريق مهمة ترصد سير الوباء وحركته في العالم بوجه عام، وفي المناطق المفتوحة على العالم العربي بوجه خاص، ليظل على إحاطة كافية بمؤشرات تقدمه أو تراجعه.

* وقف استيراد أية طيور حية من البلاد التي وصل إليها الوباء، وقد اتخذت السلطات المصرية قراراً بمنع دخول شحنة من الدجاج التركي وصلت إلى موانئها في بداية الأسبوع الحالي، وأحسب أن خطوة مماثلة يفترض أن تتخذ في كل الدول المعرضة للتهديد.

* توفير الإمكانيات الفنية المتقدمة التي تمكن من البدء في إنتاج اللقاح المضاد لفيروس الأنفلونزا، الذي قد يتطور نتيجة التلاقح بين الفيروسين في الخنزير، وقد أشرت إلى أن هذه العملية تستغرق أربعة أشهر، ومعروف أن في مصر مركزاً كبيراً لإنتاج الأمصال واللقاحات يمكن أن يغطي الاحتياجات المحلية والعربية، ولكي يتحقق ذلك ينبغي أن يكون هناك قرار يعبر عن جدية الإرادة أولا، ثم اعتماد مالي كاف يدخل تلك الإرادة حيز التنفيذ، وييسر اقتناء الأجهزة المتطورة اللازمة لذلك.

ذلك هو الحد الأدنى المطلوب، إذ أردنا أن نأخذ الأمر على محمل الجد، ونتعامل مع الوباء بحزم قبل فوات الأوان، فهل من سميع أو مجيب بين أهل القرار، حتى «نعقلها» قبل أن نتوكل؟