عبد الودود !

TT

كنت أتسكع في دروب ذلك الحي الأنيق الذي اهتمت به البلدية نظافة وجمالا.. اسماء أصحاب الفِلل المثبتة على اللوحات المعدنية هناك، جعلتني أغفر للبلدية انحيازها الجغرافي، وقد أغراني عبق زهور على الوقوف بالقرب من أحد الأسوار، فنبح كلب، ودق جرس، واشتعل مصباح، وأطلت عينان حمراوان، وحينما تأكد الكلب والجرس والمصباح أنني أرتدي كل ملابس العيد قبل الآون، اكتفى الكلب بهز ذيله، وابتلع الجرس رنينه، وأغمض المصباح جفنه، لكن صاحب العينين الحمراوين ظل يرمقني شذرا وأرمقه حذرا، حتى فز من مكانه بفردة حذاء واحدة ليقذفني بالسؤال: «ماذا تفعل هنا؟».

استمعت إليه بأذن واحدة وأنا أجيب ساخرا: أتفقد أحوال المدينة.

لعق مرارة السخرية التي سبَّبتْهَا صياغة سؤاله، فلمْلمَ ما تناثر من كلامه وقال:

ـ «هل تبحث عن أحد هنا؟»

تذكرت في تلك اللحظة أن صديقا قديما التقيت به أخيرا أخبرني أن مكتبا له في الجوار، فقلت:

ـ أبحث عن مكتب عبد الودود

فانبسطت أساريره وهو يصحح لي: الشيخ عبد الودود!

قلت: «لا.. عبد الودود فقط». فعبد الودود الذي أبحث عنه ليس شيخا، فلا هو عالم شريعة ولا زعيم عشيرة.

مد إصبعه حتى كاد يفقأ عيني القريبة منه وهو يشير إلى مبنى فخم ضخم في المقابل، وقال: «ذاك مكتب الشيخ عبد الودود».

قلت: «إذن ليس هو صديقي».

وفجأة تثاءبت ضفتا باب اندلق منه وجه عبد الودود في حاشية من توابع «الأبهة»، فقال الذي مسح زجاج نظارته لتوه بطرف شماغه: «تفضل يا شيخ عبد الودود»، واهتزت بطن رجل سمين عدة مرات قبل أن تنبعث ضوضاء من حنجرته لم أتفهمها.

وحينما سألت لاحقا أحد الذين طفت بهم الدنيا على نهر الحياة عن سر اللقب الذي حصل عليه عبد الودود تنحنح ثم أسقط ثلاث حبات من مسبحة يده قبل أن يقول: «إنها مشيخة الدراهم!».

في تلك اللحظة تذكرت نصا في كتاب «موسوعة جدة» للمؤرخ الأنصاري يشير فيه إلى أن الذي كان يمتلك في الماضي مائة ألف درهم يبني على سطح داره قبة ويطلق عليه الناس لقب «الألفي».. فالناس في الماضي لم يخلطوا بين «القبة» و«الجبة»، وبالتالي كان الفرق واضحا في أذهانهم بين «الشيخ» و«الألفي».

[email protected]