الفرق بين بوز تشومبي ووجه عشتروت

TT

يشْبِهُ بعض ما كتب عن زوبعة حركة «حماس» الأخيرة في غزة «التغميس خارج الصحن» فالمفردات التي استخدمت في هذا الذي كتب، بأسلوب خطابي عرمرمي، تذكر بتلك الحقبة الغارقة في المزايدات الفارغة حتى الذقون التي كان عنـوانها: «تجوَّع يا سمك.. والى الجحيم يا إسرائيل»، وكل هذا وكأن العالم لم ينعطف هذه الانعطافة التي بدأت في مطلع تسعينات القرن الماضي عندما انهار الاتحاد السوفياتي وأصبح الكون كله يقف على قدم واحدة هي قدم الولايات المتحدة الأميركية.

في بدايات سبعينات القرن الماضي، بعد إخراج منظمة التحرير وكلِّ فصائلها وقواتها من الأردن، عاشت بيروت، التي كانت في تلك الفترة تشبه سفينة نوح، جدلاً صاخباً حول قضايا كثيرة تتركز بغالبيتها على تجربة المقاومة الفلسطينية على الساحة الأردنية بما في ذلك الإجابة على التساؤلات التي طُرحت بإلحاح في ذلك الوقت والتي كانت تدور كلها حول: هل يا ترى كان بإمكان الفدائيين الفلسطينيين ان لا يقعوا في ما وقعوا فيه وان لا يرتكبوا الأخطاء التي ارتكبوها التي كانت نتيجتها فقدانهم لأهم الساحات العربية ؟..!.

وفي غمرة ذلك الجدل الصاخب الذي اشترك فيه فلسطينيون ولبنانيون وعرب من معظم الأقطار والدول العربية تبارز اثنان هما: كاتب عراقي اسمه «أبو أنمار» كان يعمل في أسبوعية «الهدف» الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي أسسها الشهيد الصحافي والروائي المبدع غسان كنفاني، ورئس تحريرها الشاب المتدفق حيوية في ذلك الحين بسام أبو شريف، والذي تعرض لمحاولة اغتيال إسرائيلية كادت تودي بحياته، وكاتب تونسي كان أقرب الى وجهة نظر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة هو العفيف الأخضر، المثقف الألمعي الذي كان له دور بارز في الثورة الجزائرية، وكان أحد أقرب المقربين الى الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بللا.

كتب «ابو أنمار» في أسبوعية «الهدف» مقالاً لوذعياً من نمط «تجوع يا سمك.. والى الجحيم يا إسرائيل»، رداً على مقالٍ كان كتبه العفيف الأخضر، وتناول فيه تجربة المقاومة الفلسطينية وضمَّنه، وان بصورة غير مباشرة دعوة لطَرْقِ أبواب الحلول السلمية مع إسرائيل عبر أبواب اليسار الاسرائيلي والحـركة العمالية الإسرائيلية.

وجاء رد العفيف الأخضر على مقال «أبو أنمار»، الذي يشبه مقالات بعض الذين تناولوا أحداث غزة الاخيرة بأساليب ومفردات الناصريين والبعثيين في ستينات وسبعينات القرن الماضي، مع غلبة للمسحة الدينية والنحيب الإسلاموي، حاداً وجارحاً ومقنعاً في الوقت ذاته. والآن وبعد كل هذه السنوات المديدة والكثيرة والطويلة، فإنني ما زلت أذكر تلك الجملة الكاريكاتورية التي قال فيها: إن الفرق بين فهمي وفهم (أبو أنمار) للثورة والمقاومة هو كالفرق بين وجه عشتروت وبوز تشومبي!!.

إنها صورة رائعة وانه بالإمكان استخدامها مرة اخرى للرد على الكتاب المنحازين الذين لم يكتشفوا المقاومة الفلسطينية الا مع حركة «حماس»، التي هي وجه العملة الآخر للإخوان المسلمين والتي هي تنظيمهم في فلسطين... والمعروف ان الاخوان المسلمين بقوا يناصبون حركة «فتح»، التي أطلقت رصاصة الثورة في الفاتح من كانون الثاني (يناير) عام 1965، العداء ويتهمونها بالعمالة للرئيس جمال عبد الناصر ولحزب البعث وللاتحاد السوفياتي وللشيوعية العالمية، وأنهم لم يعرفوا طريق الكفاح المسلح والثورة إلا في نهايات عقد ثمانينات القرن الماضي وبعد ظهور عشرات التنظيمات التي سارت على هذا الطريق.

إن الفرق بين فهم هؤلاء الكتّاب للمقاومة وفهم زملائهم، الذين يخالفونهم الرأي، بالفعل كـ «الفرق بين وجه عشتروت وبوز تشومبي» فالمقاومة ليست مجرد عمليات انتحارية عمياء كانت عبئاً ثقيلاً على مسيرة الفلسطينيين وقضيتهم، والمقاومة ليست «استعراضات» عسكرية لم يكن بمقدور الذين قاموا بها ان يقوموا بها لو ان الاسرائيليين لم يخرجوا من قطاع غزة، ولو ان «التفاهمات» التي رافقت هذا الخروج لم تضمن لهم عدم تعرضهم، لما تعرض له الشيخ احمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأخوة لهما آخرون رحمهم الله جميعهم وغفر لهم.

لا ينكر على «حماس» الدور الذي لعبته في النضال الوطني الفلسطيني خلال الـ 18 عاماً التي أعقبت انطلاقتها، رغم ان هذه الانطلاقة تأخرت نحو ربع قرن منذ الرصاصة التي أطلقت في بداية عام 1965، إلا قليل دين وناقص ضمير لكن المشكلة تكمن في ان هذه الحركة التي جاءت متأخرة جداً، لم تلتقط الحلقة المناسبة في اللحظة المناسبة، ولم تدرك ان للمعادلات الدولية احكام وقوانين وان العمل الثوري مثل العمل في المختبرات الكيميائية، حيث أي خطأ في المقادير والنسب سيؤدي حتماً الى كارثة فعلية وحقيقية.

كان على «حماس» ان لا تضع نفسها بديلاً لكل الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة «فتح» التي هي مُطْلقةُ المقاومة وصانعة الثورة ورائدة الكفاح المسلح، وأن لا تَتبعَّ سياسة الغائية مع منظمة التحرير ومع السلطة الوطنية وان لا تستغل الفرصة وتبادر الى «عسْكرة» الانتفاضة الاخيرة لإظهار عجز ياسر عرفات رحمه الله وعجز سلطته وانتزاع مقاليد أمور الفلسطينيين من يده وبالتالي صب الحب في طاحونة الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة القائلة، ان هذا الرجل لم يعد ذا صلة وان إسرائيل لا تجد الطرف الفلسطيني الذي من الممكن إبرام اتفاقية سلام معه.

وكان على «حماس» ان تكون أكثر إدراكاً لمغزى ما جرى في واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) عام 2001، وان تعرف ان سلسلة العمليات الانتحارية التي نفذتها ضد أهداف إسرائيلية مدنية بعد انقسام العالم الى فريقين فريق إرهابي وفريق مقاوم للإرهاب، وكان عليها ان تغلب مصلحة شعبها على مصالحها التنظيمية، وان توقف هذه العمليات التي أساءت للفلسطينيين وقضيتهم، وان تتصرف على خلاف ما تصرفت، وان تفسح المجال لأن يكون الشعب الفلسطيني في إطار الجبهة المقاومة للإرهاب، وان لا يحسب على الجبهة الإرهابية.

ثم وكان على «حماس» ان تنسق مع السلطة الوطنية ومع باقي فصائل المقاومة وأولها وأهمها وأقدرها حركة «فتح»، وان تعرف ان الشعب الفلسطيني بات بحاجة الى فترة التقاط أنفاس وان النضال والجهاد ليس صواريخ كرتونية، شكلت مبرراً لشارون ليقوم بكل ما قام به من قتل وذبح ودمار، وان قوانين الثورة التحررية الناجحة تقضي بالتوقف عن العمل المسلح عندما يصبح التوقف ضرورياً، وان تتكيف مع الظروف المستجدة الطارئة عندما لا تكون المعادلة ملائمة ولا متوازنة.

لم تفعل «حماس» هذا وهي أخلَّت بقوانين الثورة والمقاومة فعزلت نفسها عن شعبها الذي ملَّ الاستعراضات العسكرية، وسئم متابعة وجبات الصواريخ الكرتونية وبات بأمس الحاجة الى فترة التقاط أنفاس، كما وعزلت نفسها عن باقي فصائل وتنظيمات المقاومة الفلسطينية، وهذا هو الذي عرضها لانتقادات الاصدقاء الصدوقين والذين تأتي انتقاداتهم في إطار النقد والنقد الذاتي البناء. وهؤلاء بالتأكيد ليسوا من المهزومين والمثبطين العرب الذين في حقيقة الأمر يقفون داخل المربع الإسرائيلي. إن دعم «حماس» الخالص لوجه الله والبعيد عن ظاهرة «تجوَّع يا سمك» هو بانتقادها نقداً بناءً والقول لها ان مصلحتها ومصلحة الشعب الفلسطيني تفرض عليها الدخول في دائرة العملية السياسية والمشاركة في العملية السلمية.. إن هذا ليس انبطاحا إنه الجهاد الأكبر وان دافعه ليس تحقيق أمجاد كلامية شخصية وذاتية، وإنما إعانة هذا الشعب العظيم، الذي لم يكتشف المقاومة قبل ثمانية عشر عاماً بل قبل نحو خمسين عاماً، بالكلمة المسؤولة الصادقة.

خلال المرحلة البيروتية وعندما بدأ الفلسطينيون يتحدثون في مؤتمراتهم وصحفهم ومجالسهم الوطنية عن السلام مع إسرائيل كتب بسام أبو شريف، ويومها كان مسؤول الاعلام في الجبهة الشعبية وعضو مكتبها السياسي، مقالاً وصف فيه تيار العملية السلمية في المقاومة الفلسطينية بـ«الانبطاحيين».. وخلال اول لقاء مع ياسر عرفات وكان في مقر اتحاد الكتاب الفلسطينيين في بيروت قال له أبو عمار:.. ها.. يا بسام.. أتتهمنا بالإنبطاحية.. لتعرف يا بسام ان من يريد إطلاق النار عليه ان ينبطح.. وان الذي يصر على الوقوف هو الذي يريد ان يكون مستعداً دائماً للهروب.. إننا ننبطح يا بسام حتى نواصل إطلاق النار!!.