تركيا: بين عضوية الاتحاد.. والارتداد للأصولية

TT

يخطئ من يظن ان انضمام تركيا أو عدمه الى الاتحاد الاوروبي يخص تركيا وحدها. لقد اصبح مسألة اكبر بكثير من ذلك، مسألة تخص العلاقة بين العالم الاسلامي بمجمله والعالم الغربي كله. وبالتالي فهو يندرج ضمن ما ندعوه بحوار الحضارات أو صدامها، بالخوف من الاسلام والارهاب الاصولي الذي ارتبط به بعد تفجيرات نيويورك ومدريد ولندن، أو بخوف الاسلام ايضا من العلمانية والقوانين الوضعية التي قد تفقده هويته وخصوصيته كما يزعم المحافظون والتقليديون.. كل هذه المسائل تنفجر دفعة واحدة كلما اقترب موعد انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي. فالسؤال المطروح هو التالي: هل يمكن القفز على الهوة النفسية والتاريخية السحيقة التي تفصل بين عالم الاسلام وعالم الغرب؟ ومن سيتجرأ على القيام بهذه القفزة غير المضمونة العواقب؟ من يجرؤ على القفز في الهواء ـ أو في الفراغ ـ بهذا الشكل؟

الرئيس الفرنسي جاك شيراك يعتقد ان رفض تركيا من قبل اوروبا سيؤدي الى تشنّجها وحقدها على الغرب. وربما القت بنفسها في احضان الاصولية والتزمت الديني كرد فعل على هذا الرفض الذي اهان كرامتها. وهذا صحيح الى حد كبير. ولكنه في ذات الوقت يعترف بأن الهوة لا تزال سحيقة وان على تركيا ان تقوم بجهود جبارة أو حتى «ثورة ثقافية عظمى» على حد تعبيره لكي تلحق بنا وبقيمنا العلمانية والديمقراطية. ونلاحظ ان الرئيس الفرنسي في الوقت الذي يتمنى حصول ذلك يلقي بظلال من الشك على استطاعة تركيا القيام بكل هذه القفزة الهائلة في المدى المنظور. ولذلك فهو يحاول طمأنة قادة حزبه والشعب الفرنسي الذي لا يزال يرفض انضمام تركيا بنسبة 70% عن طريق القول بأن انضمامها لن يكون قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة أو أكثر، هذا اذا ما انضمت؟ ثم يطمئنهم أكثر عن طريق القول: وحتى بعد كل هذا الوقت الطويل فانكم تستطيعون ان تمارسوا حق الفيتو على هذا الانضمام اذا لم تكن تركيا قد استوفت الشروط المطلوبة أو حققت الثورة الثقافية العظمى المرادة منها. كيف؟ عن طريق الاستفتاء الشعبي المباشر للشعب الفرنسي لكي يقول كلمة الفصل في الموضوع.

ولكن هل يمكن ان يلعب الفرنسيون والاوروبيون عموما بأعصاب الشعب التركي لمدة عشرين سنة اضافية ثم يقولون له في نهاية المطاف: آسفين، نحن لا نستطيع استقبالكم بيننا؟! هكذا نلاحظ ان الرهان على عامل الزمن لحل هذه المشكلة او العقدة المستعصية مريح وغير مريح في ذات الوقت. والواقع ان اوروبا الحالية بقادتها وشعوبها تبدو عاجزة عن حسم هذه المسألة ولذلك فانها تتركها كورثة ثقيلة للاجيال القادمة. وهذا يعني ان حل المشكلة يتم احيانا عن طريق تأجيلها عندما تكون ضخمة وشائكة جدا، فالتأجيل ايضا هو نوع من انواع الحل..

ولكن ما هي هذه الثورة الثقافية العظمى التي يطالبون تركيا بها لكي يُقبل انضمامها؟ وهل تستطيع ان تقوم بها خلال عشر سنوات او حتى عشرين سنة؟ هل يمكن للمجتمع التركي ان يهضم الثورة العلمية والسياسية والفلسفية التي تطلبت من اوروبا ثلاثة قرون لهضمها واستيعابها؟ هل يمكن ان يتوصل الى العلمنة الكاملة لمؤسساته وان يغير عاداته وتقاليده لكي تتماشى مع العادات والتقاليد الاوروبية بنسبة مائة في المائة؟ لا ريب في ان هناك بورجوازية تركية متطورة في اسطنبول وانقرة وبعض المدن الكبرى الاخرى وهي ميالة للغرب ولا تجد حرجا في تبني عاداته وتقاليده، بل انها ميالة للحضارة الفرنسية بشكل خاص لان اتاتورك كان متأثرا بها ويريد لتركيا ان تمشي على منوالها.

ولكن عموم الشعب التركي وبخاصة في الارياف والمناطق الشرقية المتخلفة ليس كذلك. وليس من المؤكد انه يستطيع ان يلحق بمستوى الشعوب الاوروبية قبل نصف قرن على الاقل، هذا اذا ما استطاع. وبالتالي فالعملية ليست مضمونة العواقب. ولكن طيب رجب اردوغان لكي يكسر الرفض الاوروبي يحاول ان يستخدم محاجة هجومية تحرجه عن طريق القول: انتم ترفضوننا لانكم ناد مسيحي مغلق على نفسه وتكرهون كل من ليس مسيحيا.

وهذه المحاجة تنطوي في الواقع على تهديد مبطن: بمعنى اذا لم تقبلوا بتركيا فانها سوف تنكفئ على تراثها الاسلامي وتشكل تكتلا كبيرا بمواجتهكم عن طريق ضم العرب والمسلمين الآخرين اليها.. فهل هذا ما تريدون؟ ألستم تكررون على مدار الساعة بانكم تخشون التطرف الاصولي الذي يجتاح العالم الاسلامي وانه يشكل الخطر الاكبر بالنسبة لكم حاليا؟ فلماذا اذن تدفعون الآخرين دفعا الى الارتماء في احضانه؟

هذه المحاجة الذكية والرهيبة فعلت مفعولها حتى لدى شخص مثل بيرلسكوني الذي اشتهر بتصريحاته النارية المضادة لحوار الحضارات بعد ضربة 11 سبتمبر مباشرة. فبعد ان التقى بشيراك أخيرا قال في قصر الاليزيه: ينبغي ان نقبل تركيا لانها تشكل جسرا بين الغرب والعالم الاسلامي. واذا ما رفضناها فان المحبة السائدة بيننا قد تتحول الى حقد. وهذا صحيح ولا يمكن للمرء الا ان يشيد بحكمة رئيس وزراء ايطاليا والعديد من المسؤولين الاوروبيين الآخرين كميشيل روكار رئيس وزراء فرنسا السابق مثلا. فقبول تركيا، البلد الاسلامي الكبير ذي التاريخ العريق ايام الامبراطورية العثمانية، سوف يوجه ضربة قاضية للاصولية المتطرفة في كل انحاء العالم الاسلامي. وسوف يساعد العالم العربي وسواه على هضم مكتسبات الحداثة تدريجيا، وفي طليعتها دولة الحق والقانون، والقبول بالتناوب الديمقراطي على السلطة وحرية الصحافة وتأمين حقوق الانسان رجلا كان ام امرأة وتحقيق التسامح الديني، وانهاء حكم التعسف والاعتباط والطغيان، الخ.

نقول ذلك على الرغم من ان أوروبا ليست ناديا مسيحيا كما يقول اردوغان، وانما هي ناد علماني. والدليل على ذلك هو انها رفضت ان تسجل في ديباجة دستورها العبارة القائلة بان المسيحية هي اساس القيم الاوروبية او على الاقل احدى روافدها. وقد أثار هذا الرفض ضجة كبيرة وازمة مفتوحة مع الفاتيكان لم تنته حتى الآن.