أشغال شاقة!

TT

في كل مرة أحشر أنفي في حقيبة أحد التلاميذ المدرسية لألقي نظرة على الكتب المقررة، أشعر بالحزن لأننا لا نزال أسرى التعليم التقليدي الذي يستهدف إخراج دوائر معارف متحركة من خلال حشو الأذهان بأكبر قدر من المعلومات والمعارف النظرية، وأتذكر جارتي في الولايات المتحدة التي كانت تحمل درجة الدكتوراه في التربية من إحدى الجامعات العربية حينما ذهبت إلى المدرسة محتجة على معلمة ابنها في الصف الأول لأنها لا تكلفه بأية واجبات منزلية، يومها تلقت صاحبة الدكتوراه في التربية أول درس حقيقي لها في تخصصها، فلقد أخبرتها المعلمة بأنها تتعمد عدم إعطاء تلاميذها واجبات منزلية لأنها تعتقد أن الوقت الذي يقضونه في المدرسة يكفي، وهي لا تريد أن تسرق فرح الطفولة من طلابها، بل تريدهم أن يستمتعوا بكل الوقت خارج المدرسة.

فالإشكالية التعليمية العربية التي تمتد من الماء إلى الماء أننا لا نزال أسرى المحفوظات، في الوقت الذي يتجه فيه العالم المتقدم إلى تنظيم الجهد الإنساني، وبدلا من أن يحشو أذهان صغاره بالقدر الأكبر من المعلومات اتجهوا إلى تعليمهم طرق البحث للوصول إلى المعلومة عند الحاجة، ومن منٌا لا يتذكر بأسف تلك الليالي التي أنفقها في استذكار درس كالجغرافيا مثلا، إذ كان على الطالب أن يعرف خرائط الدول وتضاريسها وثرواتها وأنهارها وبحارها ومدنها ونشاطات سكانها، وتلك الغاية المستحيلة لو قدر لأحدنا تحقيقها فإنها سرعان ما تتناثر من الذاكرة فور اجتياز الاختبار في تلك المادة، كما تناثرت قصائد إمرئ القيس والنابغة وزهير وغيرها من محفوظاتنا القديمة.

وقد اتهمت إحدى الصحف المليونير الأمريكي هنري فورد بالجهل، وبأن معرفته محصورة فقط في صناعة السيارات، فرد فورد ببرود على من اتهمه قائلا: «لماذا أحول عقلي إلى رصيف للمعلومات العامة، في الوقت الذي استطيع بضغطة زر من مكتبي أن استدعي رجالا متخصصين في المعلومة التي أريدها»، فلقد أدرك ذلك الرجل مبكرا أننا ندخل عصر المعرفة المتخصصة، وأن زمن الموسوعات البشرية التي كانت تمشي على الأرض وتعرف في الأدب والتاريخ والطب والكيمياء قد انتهى.. وبإمكان الإنسان الحديث اليوم الذي يستخدم «الإنترنت» أن يفعل أكثر مما كان يفعله هنري فورد، ودونما حاجة إلى استدعاء الرجال المتخصصين بذاتهم، لكن المحزن حقا أن تقول لك الأرقام إن استخدامات الإنترنت في عالمنا العربي محدودة جدا، وأننا في الصفوف الخلفية في الترتيب العالمي، فالمدراس لا تزال بعيدة عن روح العصر وإيقاع الزمن، وأن مادة الكمبيوتر المدخلة في مقررات بعض الدول العربية لا يزال ينظر إليها كمادة ثانوية هامشية لإخراس الأصوات المطالبة بها.. وباختصار: أن تكون طالبا في عالمنا العربي فهذا يعني قبولك حكما بالأشغال الشاقة الذهنية والبدنية. أعاننا وأعانهم الله.

[email protected]