علم أوجع من حلم!

TT

سيبحث أصحاب القلوب الرحيمة عن دروب وتبريرات لتلك الشفقة التي ستفطر عيونهم وقلوبهم وهم يرون صدام حسين وقد «تدردب» من عليائه وسقط على رأسه من أبراج دار السلام المجيدة وحصونه، وقد دكت تماثيله وقد حطمت ، كسرها شعبه الذي كان يهتف له بالأمس في ساحة الفردوس وقد صارت جحيما.

نزعت عنه نياشينه ونسوره التي لم يجرؤ أحد على السؤال من أين له هذا؟ تلك النظرة في عيني شيخ جاوز الستين ما أعتاد الناس على رؤيته إلا مرفوع الرأس شامخ الجبين يطلق الرصاص أو يسبح بزندين عريضين قاطعا شط الفرات، يروي تاريخا مزورا من أساطير الانتصارات الوهمية من اعتراضه لموكب عبد الكريم قاسم وهربه مصوبا يخر دما ثم هربه لمصر ثم عودته ليتسلم الحكم طوال ثلاثة وأربعين عاما، هو الآمر الناهي.

قصص وحوادث لو سجل بعض منها راو عراقي كما فعل مهدي حيدر في كتابه عالم صدام، لظن المرء أنها حكايات خرافية انتقاها العقل من شتى بقاع العالم. رئيس يقتل زوجي ابنتيه وأخيه وبناته، ويسجن ابنه ذا الجرائم المروعة في غرفة بسبب قتله حارس أبيه الشخصي بطلقة من مسدسه، فيكتب وزير عدله رساله يطلب من الرئيس أن يرحم ابنه ويخرجه، هذا هو رأس القضاء والعدل، يخوض حربين ويظل يروج لنصره الوهمي، فهو مرة حامي البوابة الشرقية ومرة بطل أم المعارك.

هذا التاريخ الذي ما كان لتحتمله سيرة رجل واحد، يكتمل اليوم في مشهد غير عادي، بنهاية تاريخية تشبهه، تصطاده الكاميرات وهو ذليل مختبئ في جحر عفن لا يليق إلا بحيوانات الجحور الأرضية، تتفرج عليه الناس وهو في هيئة رجل غابة متسخ الثياب، لا كما اعتادت على رؤيته متأنقا بالقبعة الروسية والبالطو الايطالي، والبندقية الألمانية، ثم ينتهي كأهم خبر في مقدمة القرن الحادي والعشرين بمحاكمة العصر، نهاية تليق به، لكنها تقطع قلوب الرحماء، قبل أن تسمع محامي الإدعاء وهو يحصي عدد ضحاياها وقبل أن تقرأ الكتب التي كتبها الفارون من سجونه، وتسمع على القنوات بني عمومته ومواطنيه، وهم يروون كيف ذبحت أمهاتهم نحرا بالسكين فقط لأنهن لم يتوقفن عن الدعاء عليه.

في المحاكمة الأولى فقط سمعت عن 143 مواطنا تم إعدامهم في ساعتين بسبب تهمة محاولة قتله، كثير منهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ستسمع قصص المرأة الحامل التي سجنت ضمن عوائل الملاحقين وأطفالهم، ولدت في السجن ولم تجد غير ورق جريدة تلف به ابنها، وحين أطلق سراحهن لم يجدن بيوتهن ولا نخيلهن ولا رجالهن، وجدن فقط جثثهم مدفونة في قبر جماعي بعد سقوط نظام صدام.

هذا، غير مذبحة حلبجة، وغير حرب احتلال الكويت التي تشبه قصص قبائل الصحراء الغازية التي يهجم بعضها على بعض وتحتل مرعاها وتشرد أبناءها، وتأسر شبابها.

صدام رجل فريد خارج من حكاية شبه فريدة، لكنها حكاية نهب وغزو، حكاية غاب متوحشة، ولهذا فإنه اليوم يجلس في مشهد لا يقل وحشة عن حكايته في آخر عمره في قفص أبيض حقير، يستمع للهجة العراقية وهي تحاكمه، حتى وهو يرفض الاعتراف بها، وكأنه لا يصدقها!.

صورة يرتاع لها كل جبار معتد أثيم، ويشهق قائلا معقول يا ناس ما نراه؟! نحن في علم أم في حلم ؟!.

[email protected]