العدو الأول

TT

لي في الحياة خصوم كثيرون. وليس أسهل من الخصومة. ولي أصدقاء قليلون، وليس أصعب من الصداقة ولا أعقد منها، إلا القدرة على المحافظة عليها. وأنا مدين لأصدقائي بهذا الفضل. ويغالبني فرح شديد لأن الصداقات المزيفة أعادها أصحابها الى حقيقتها الصغيرة. وندمي الوحيد والعميق والأبدي أنها دامت، بسبب ضعفي، السنوات التي دامتها. كان يجب ألا تكون. فلا صداقة في الكذب والنميمة والحقد والحسد.

وهناك صداقات قليلة جداً تحولت الى خصومة أو جفاء، أشعر بسببها بندم شديد، وبحزن دائم، وبشوق مستديم، وبعقدة ذنب ملازمة. وأعرف أن هذه الصداقة لن تعود. فقد طالت عليها سنوات الفرقة، وحفر فيها صدأ الندم والغضب. لكن سنوات الود والمحبة منها لن تفارقني. لقد كانت خلافاتها جميلة، وأشياؤها العادية طيبة، وجوهرها نادر مثل ذهب الفقراء.

خصومات كثيرة وعدو واحد طوال هذا العمر. هزمني وهو يضحك. وكيفما تنقلت لا يكف عن إلحاق الهزيمة بي. إنه الوقت. وقد خدعني يوم كنت شاباً وأشعرني بأنه معي، وأنه سيبقى. وبسبب هذه الخدعة كنت أؤجل الأشياء الى الغد. وصار الغد سنوات، تركت خلالها مئات الأحلام في الإهمال. وتحولت سنوات كثيرة الى بدد وهباء. كنت أقول غداً أبدأ كتاباً جديداً، لكن في الغد أذهب الى غداء جديد، أو أسافر في رحلة أخرى. وفجأة اكتشفت أنه لم يعد يكفيني أن يكون اليوم 24 ساعة، من أجل أن أقرأ كل ما أريد وأن أكتب كل ما أشاء. ولم أفق إلا وقد تكومت أوراق الروزنامة على عتبة البيت مثل أوراق ذرّتها الرياح الى عنوان مجهول. ومن العبث البحث عنها. كل شيء يمكن استعادته إلا الوقت الذي أعطيناه ولم نعرف كيف نستثمره. كم نبهنا الى ذلك ولم نصدق. وسلمنا أنفسنا لتيار الضياع وهوام الأيام. واعتقدنا أن الوقت سوف يمنحنا معاملة أفضل. وسوف يكون صادقاً معنا أكثر من سوانا. وسوف يتمهل قليلاً عندما يمر في ديارنا. لكن الوقت خداع. إنه الرفيق الذي نظنه قريباً وهو سحيق. ساعة رملية تفرغ أمامنا ونحن نرفض أن نصدق. نعتقده ظلنا لكنه ليس ظلا. إنه الظل الذي يتهرب منا على الدوام. إنه ذاهب دائماً في اتجاه نفسه، بعيداً عنا. وإذ أتطلع الى العام الذي مضى، أجد أن عاماً آخر قد مرّ ولم أضع الكتاب الذي وعدت نفسي به. ومعه خسرت أفكارا وصوراً وسطوراً كثيرة كان يجب أن أدونها. وكنت دائماً أقول غداً. وإذا اليوم الذي لا نقبض عليه يتحول الى أمس لا علاقة لنا به. والى روزنامة على جدار آخر.