المؤرخون

TT

قابلت المؤرخ الاستاذ فيليب حتي في جامعة برنستون العام 1973، قبل سنوات قليلة من غيابه. كان لا يزال يرأس دائرة الدراسات الشرقية في تلك الجامعة القائمة في بحر من الهدوء والتأمل والخضرة، بعيداً عن المصانع والمداخن والضجيج المجاور. وعندما غاب البروفسور حتي، لم تعرف الحياة الاكاديمية في اميركا مؤرخاً عربياً في مكانته. ويحتل المؤرخ برنارد لويس منذ سنوات كرسياً شرقياً في جامعة برنستون. لكن الكتب المنهجية التي تركها حتي للمكتبة التاريخية لا تقارن بما تركه لويس. فالموضوعية والدقة والمحبة التي كتب فيها حتي، حدثت مرة واحدة في هذا الحقل.

في لندن التقيت مرات قليلة جداً البروفسور البرت حوراني، الذي كان عميد الدراسات الشرقية في جامعة اوكسفورد. ومثل فيليب حتي، وضع حوراني كتباً حول تاريخ المنطقة وحضاراتها. وينقسم القارئون في الرأي حول اعمال حتي وحوراني. وأنا من اولئك الذين يعتبرون ان حتي كان علمياً وشاملاً وانه لم يترك جانباً من معالم التاريخ العربي الا وتعمق فيه وعرضه. وقبل سنوات التقيت مرة واحدة الدكتور جورج عطية، امين القسم الشرقي في مكتبة الكونغرس. وقد اغنى الدكتور عطية هذا القسم ببعض اهم الآثار الاسلامية والعربية. وعندما داهمته العلة الصحية، بدأت ادارة المكتبة تبحث عن بديل في مثل خبرته وكفاءته.

جهدت هذه المؤسسات العلمية الشديدة العراقة في البحث عن بدائل للرجال الثلاثة. ولما تعذّر العثور على بديل عربي توسّع البحث الى العالم الاسلامي والى دائرة المستشرقين الغربيين. وظلت الكراسي الاكاديمية الثلاثة خالية. وخلال البحث عن خلف للدكتور حوراني سئلت ان كانت لي معرفة بشبيه له. وقلت ان طريقة البحث خاطئة في الاساس. فقد توافرت لحتي وحوراني الظروف التي تتوافر فقط للرواد. الاميركيون ساعدوا الاول بفريق من 30 باحثاً، والبريطانيون رأوا في ابن المهاجرين اللبنانيين، بريطانياً مثالياً فوضعوا في تصرفه كل ما اراد من وثائق، اضافة الى مخرونات اوكسفورد نفسها.

لقد ترك الثلاثة في الاكاديمية الغربية موقعاً عربياً من الصعب ان يملأ. لقد كانت مرحلة مختلفة، كان فيها المؤرخون، برغم موضوعيتهم ومنهجيتهم، يكتبون التاريخ بعناية ومحبة ودفء. وتمايزت اعمال حتي وحوراني عن اعمال المستشرقين، بأنهما كتبا في دفء وأحبا الرجال الذين كتبا عنهم. وما زلت اعتقد ان تاريخ العرب كما وضعه فيليب حتي، او تاريخ الشرق الادنى، او سواه، اصدق واشمل المحاولات في هذا الباب. على الاقل بقدر ما اعرف.