الضرب في التعليم... حرام..!

TT

تناقل السعوديون في الايام الماضية صورا عبر «البلوتوث» تظهر معلما يهوي بالسوط على طالب صغير، والطالب يستغيث ولا مغيث، القضية تفاعلت وأثارت سخطا، والوزارة وعدت بالمتابعة، وأنا تساءلت: من هو المضروب حقا في التعليم والتربية؟!

هناك اشياء كثيرة ضربت في ذلك الجسد.

للأسف، تحول موضوع التربية والتعليم الى سلاح في حلبة المعركة السياسية بين الفرقاء العرب والمسلمين، على خلفية الدور الامريكي البارز في البلدان العربية والإسلامية، والذي تعاظم بعد تفجيرات 11 سبتمبر.

أصبح كل حديث عن اصلاح التعليم مدانا قبل البدء به! أصبح طلب التجديد وحرث الارض التربوية من اجل إزالة الاعشاب والعوالق الضارة، مدعاة للاتهام بالخيانة والعمالة للغرب. واذا ساد النقاش جو كهذا فعلى الحقيقة السلام، فالدور ليس لها، وليست هي المطلوبة، بل الهتاف والهتاف فقط هو الطاغي على كل الاصوات.

هذا الحديث لا يحتاج الى مناسبة خبرية، فهو راهن باستمرار، ومطلوب دوما، لأن واقع العملية التعليمية والتربوية مزر في عالمنا العربي. لن اتحدث عن التقارير والدراسات التي تكشف جوانب من سوء المخرج التعليمي، أقتصر فقط على علة واحدة اشار اليها أحد هذه التقارير. فقد ذكر تقرير تعليم الامة العربية في القرن الحادي والعشرين أن: « التربية العربية أدت دورا مدمرا في الحياة العربية خلال القرن الماضي (لاحظ أيها القارئ الكريم: خلال القرن الماضي، وليس بعد 11 سبتمبر!)، ويتمثل هذا الدور في ثلاث وظائف تتعارض مع اتجاهات التحضر والتنوير، وهي: العزلة الحضارية، وقهر العقلانية، ومن ثم تجنبها في التعامل مع مشاكل الحياة والنفس، واخيرا تبخيس قيمة الانسان العربي». (علي أسعد وطفة: التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي ص 72).

نعم قهرت العقلانية، وانعزل الانسان العربي حضاريا وصار يشعر بالانفصال عن هذا العالم، والمعزول يخاف ولذا يخيف! ومن هنا بات الانسان العربي، كقيمة، من قبيل اللامفكر فيه.

الحديث عن التعليم والتربية، مناسب الآن، ومناسب قبل دخول أمريكا على خط النقاش فيهما، وسيظل هذا الحديث مطلوبا، حتى تتخلص سفينة التعليم والتربية من حبال التخلف والجمود والتعصب التي تشدها الى قاع الظلمات. مع هذا، إلا أن سبب هذه المقالة المباشر، ما قرأته في جريدة الرياض السعودية في عددها الصادر 26 من الشهر المنصرم، عن معلم سعودي في بلدة الفويلق في منطقة القصيم وسط السعودية.

الصحيفة تقول إن ادارة التعليم في المنطقة الادارية التي تتبع لها البلدة، قد أبعدت معلم الكيمياء والتربية الوطنية بمدرسة ثانوية الفويلق محمد سلامة الحربي عن التدريس بسبب ما قال المعلم، إنها مكيدة نسجها له بعض المعلمين بالمدرسة من المغالين في الدين. الصحيفة عنونت الحوار مع المعلم، الذي احتل صفحة كاملة بـ: «أعطى دروساً في الوطنية وكافح الإرهاب.. فحوكم وسجن وأوقف عن التدريس في القصيم!».

المعلم يسرد تفاصيل كثيرة، وكلها تشير الى تعرضه للمضايقة بسبب حملته على التطرف الديني من قبل بعض المتعصبين بالمدرسة.

شخصيا، لست ادري عن حقيقة هذه القصة، لأن الامر يحتاج الى تتبع التفاصيل الاخرى، وكلام الشهود، وحيثيات الدعوى، وكلام زملاء المعلم، اعتقد أن هذه مهمة القضاء وليست مهمة الصحف وكتابها. لكن من المهم التأمل مليا في مثل هذه الاخبار.

هناك ممانعة عنيدة تأبى تناول الملف التعليمي ووضع مناهج التربية الدينية بالتقويم، وحينما قدم باحثان سعوديان، من طلبة العلوم الدينية، لمؤتمر الحوار الوطني السعودي الثاني ورقة تثبت، بالأدلة، وجود شيء من التطرف في بعض هذه المناهج وتطالب بإصلاحه، ثارت ثائرة بعض الاسلاميين فأصدر 156 اسلاميا سعوديا بيانا يحذر من «خطورة» تطوير المناهج التعليمية، خصوصا الدينية منها. وحذر البيان من «خطورة» أي خطوة قد تتخذها الحكومة في اتجاه تعديل المناهج الدينية في المدارس أو تطويرها، مشيرا إلى أن ذلك التعديل سيعتبر بمثابة العتبة الأولى على طريق «الإفساد».

هناك أزمة حقيقية تواجه عملية إصلاح التعليم والقضاء على التعصب الديني، ليس فقط في نصوص المقرر الدراسي، وإنما في الوسط التعليمي والمعلم نفسه، خصوصا ان قصة معلم الفويلق، ليست الاولى، فهناك قبلها قصة معلم آخر، حدثت قبل عدة اشهر وشغلت كتاب الصحف السعودية، وهي قصة المعلم السحيمي الذي وجهت له تهم دينية مقاربة منها قوله إن: الحب مبدأ سام، والموسيقى مباحة ... الخ

وبعد ذلك ثارت قضية وضع التعليم في بعض مدارس محافظة (الزلفي) وسط السعودية، والتي اثارت عددا من معلقي الصحف السعودية، حيث كان النشيد الوطني محل رفض من بعض المعلمين المتعصبين، الى الدرجة التي جعلت اهالي المدينة يتبرأون من تلك التهمة، ولا شك في هذه البراءة، ولكن النقاش كان حول (بعض) من يدرج اجندته داخل الصف الدراسي.

هذه (البعضية) الضارة في التعليم والتربية، ليست هينة الضرر، مع الاخذ بالاعتبار استكانة بقية المنخرطين في هذه العملية تلقيا وبثا. وهذا ينبهني الى تعليق الكاتب علي الموسى في صحيفة الوطن السعودية الذي اشار الى مقالي ما قبل الماضي بعنوان (حديث واضح في زمن غامض)، والذي تحدثت فيه عن كلام الملك عبد الله بن عبد العزيز في حواره مع المذيعة الامريكية بربارا وولترز، الذي اشار فيه الملك (الصريح) الى أن هناك اشياء في التعليم السعودي قد لوحظت وقد خفف منها، وكان الحديث عن التشدد تحديدا.

الاستاذ علي الموسى علق على استشهادي بمثال في منهج الحديث للصف الثاني المتوسط، يقول: «رأى زيد كافرا في الطريق فضربه».

الموسى يرى أن هذا المثال جاء مع أمثلة اخرى تحت السؤال التالي: في ضوء دراستك للحديث بيّن موقفك من الصور التالية. بعدها وردت هذه الجملة على رأس أربع جمل. يقول الموسى: «الأصح أن يذكر الأخ الذايدي كامل سياق النص حتى يستقيم الفهم ونصدر الحكم».

لكنه كفاني المؤونة، مشكورا، فقال: «في الصفحة الرابعة عشرة من ذات المنهج، ترد كلمة البغض، وبعض تعريفاتها اللغوية سبع مرات، وتتالت في أربعة أسطر في صفحة لا تتعدى ثلاثين كلمة، وما زال فينا من يحاور ببراءة هذه المناهج. المؤسف أنها تقع في المناهج المعدلة، وفي النسخة الأخيرة المنقحة من المقرر. نحن نعلم أن السياق اللغوي المتكرر عبر ذات المفردة، هو استخدام دعائي للتحريض على القبول بفكرة. ما الذي نستفيده لطفل في الثاني المتوسط من ترداد كلمة ـ البغض ـ سبع مرات في صفحة واحدة». وعليه، فلا أجد مسوغا للخلاف مع الاستاذ علي الموسى، واقول ان كلامه كامل مكمل وغير مبتور السياق.

لنعد الى حكاية امريكا مع تعليمنا وتربيتنا، صحيح أن هناك اصواتا كثيرة في الولايات المتحدة تكرر وتعيد، الكلام عن وجود « بيئة كراهية» في الشرق الاوسط، فتشير الى الاعلام والتعليم، وحسب بعض المعلومات العربية فإن الإدارة الأميركية أعدَّت دراسة أكَّدت بأن أكثر من نصف الخريجين الباكستانيين هم من المدارس الدينية، على سبيل المثال.

ومن جانب مواز هناك شكوى من حالة التعليم الديني في المغرب، وحسب الكاتب المغربي محمد بودهان فإن هناك جنون بشر،على وزن جنون بقر، اصاب كثيرا من مخرجات التعليم الديني في المغرب ويقول: «يتعلق الأمر، بالنسبة للمغرب، بالتفجيرات الإرهابية لـ16 مايو 2003 بالدار البيضاء. ويقول: «كما أن سبب «جنون» البقر (...) يكمن في نوع الأعلاف الفاسدة التي غذِّيت بها تلك الأبقار عندما كانت عجولا صغيرة، فكذلك سبب «جنون» انتحاريي 16 مايو يرجع إلى نوع «الأعلاف» المسمومة التي تناولوها منذ صغرهم».

ومع حالة كهذه لا يجدي كلام بعض الدفاعيين العرب عن أن الغرب أيضا لديه تطرف في تعليمه الديني، خصوصا في امريكا، وأن المدارس الدينية بإسرائيل فيها 350 ألف صهيوني. لن يجدي هذا لأنه من قبيل القول: سنبقي على تشددنا وتعصبنا الديني، لأن هناك، لدى اسرائيل او امريكا او جزر الهونولولو، من يتطرف في تعليمه الديني. ببساطة ليست هذه مشكلتنا، هذه مشكلة الآخرين، ولن ينفعنا الافاضة والاستشهاد بعشرات النصوص، عن الاخرين، ما دمنا نتحرك بنشاط... في الجمود!

نريد القول إننا لا نرى أبدا أن التشدد أو التعصب الموجود في التربية والتعليم هما وحدهما سبب التطرف الديني، فهذا اختزال وتبسيط شديد لقضية معقدة، لأننا نعرف أن هناك أسبابا أخرى تتصل بالسياسات الخارجية أو الداخلية وبالوضع الإقليمي بالمنطقة من العراق الى فلسطين، والآن سورية، ناهيك عن الأسباب الفردية والمجتمعية الخاصة بكل حالة، هذه قضية واضحة، غير أننا في هذا السياق نوقف الحديث على المشكل التربوي والتعليمي فقط.

تربيتنا وتعليمنا مثخنان منذ اكثر من قرن، وبشهادة تقرير التنمية في العالم العربي، فتعليمنا كسيح وتربيتنا تقتل ملكة النقد، وفي اقل الاحوال ليست عامل تشجيع على النقد بل على الحفظ، باعتبار الحفظ والتكرار آلية تطويع للنظام العام، نظام التشابه العاجن للفروق الفردية في معجنة الثقافة الجمعية..

هذا هو حاله، وليس ضرب التلميذ الصغير، الذي اشرنا اليه في بداية الحديث، إلا صورة مجازية عن واقعه، هذه السطور ليست من قبيل الضرب فيه، فالضرب في الميت، او الجريح، حرام، لكنها كلمات تحاول تضميد الجرح لا ركل الجريح... وبينهما فرق، حسبما أظن.