حارة البراكين

TT

جاؤوا من شمال افريقيا ومن غربها ومن وسطها وهم يحلمون بفرنسا، برخائها، برفاهيتها، بمطاعمها، بسياراتها، بجاداتها العريضة، بجامعاتها التاريخية. فماذا وجدوا؟ اكتشفوا انهم لم يغادروا مدن افريقيا وأحياءها الفقيرة ومرارة البطالة والزمن المضاع في المقاهي وقسوة الحياة والحياة بلا مستقبل. هذه هي المسألة. جيل غاضب ويائس في بلاده، يبحث عن شرارة، فلما وجدها فجَّر البركان في وجه الوطن الجديد الذي رأى انه لا يختلف في شيء عن الوطن الأول. تلك هي المسألة.

الفقر واحد. واليأس واحد. والزمن الضائع واحد، لكن الفارق بين مدن افريقيا ومدن فرنسا، ان الشرطة في فرنسا ممنوعة من دخول الاحياء «السمراء». الشرطة لا تجرؤ على الاقتراب، و«الأمن الذاتي» هو السيد. والاجيال تنمو على انها تعيش في عالم لا علاقة لفرنسا به. بل هو يرفضها ويعاديها. وفي اول مناسبة يخرج الى احراق المعالم التي لم يستطع الحصول عليها.

فيما كانت مدن فرنسا تحترق، اعتقلت اوستراليا 15 عربياً بتهمة الاعداد لعمل ارهابي. وقامت حرائق «تضامنية» في بروكسيل وبرلين. رجال غاضبون من الشرق يحملون الحرائق الى الغرب، وصولاً الى آخر الدنيا في اوستراليا. ما الذي ارتكبته اوستراليا؟ انها بلد اسسه السجناء والمضطهدون واللقطاء الذين كانت بريطانيا تقوم بنفيهم الى ادغال الافاعي وبحيرات التماسيح. وهم ضحايا الاستعمار مثل سواهم. ولكن الشعور بالغضب لا يميز بين الفقراء الجدد والاغنياء القدامى. ولم يصغ احد عندما قال رئيس وزراء فرنسا دومنيك دون فيلبان ان «لا شيء، لا شيء على الاطلاق يبرر ما حدث».

تمنع القدرة الأمنية واساليبها الحادة، حصول مثل هذه الاعمال في دول المنشأ. وتحال هذه القضايا على الشرطة والمخابرات. اما في فرنسا وسواها فتحال على علماء الاجتماع ومؤسسات الابحاث والدراسات. وقد وعدت باريس مهاجريها الغاضبين ومحرقي المدن، بموازنات جديدة ونظرة اخرى الى اوضاعهم. ولا يحدث شيء من هذا في دول المصدر، حيث يبقى الأمل الوحيد بالنسبة الى مئات الآلاف من الشبان هو... الهجرة. اي الهجرة الى احزمة الفقر وعالم المعزولين في مدن اوروبا وتلك هي الدوامة التي لا تنتهي. وسوف تمرّ عقود قبل ان تعثر المجتمعات الغربية على وسيلة للصهر، قد تتخللها محن كثيرة كالتي نشهدها اليوم. اذ تندلع النار في بلد بأكمله بسبب مقتل مطلوبين بطريق الخطأ، فترتعد اوروبا كلها، لأن في جميع مدنها براكين خامدة واجيالاً غاضبة واحلاماً تاهت في عذابات الحقيقة.