فرنسا وثمار التعددية الثقافية

TT

بفرضها حظر التجول والعرض المؤثر للقوة الفجة، ربما تكون السلطات الفرنسية قد أفلحت في السيطرة على أعمال الشغب الأخيرة. وربما ساعدت ليال قليلة من المطر الشديد على احباط حماس المتمردين الشباب، الذين اثاروا الفوضى في ما يزيد على 300 حي في فرنسا خلال الأسبوعين الماضيين.

غير أن امرا واحدا بات مؤكدا، وهو السيطرة على الوضع مسألة، لكن ايجاد حل بعيد المدى للمشكلة مسألة أخرى تماما.

وقد فتح اخفاق الزعامة الفرنسية في فهم ما يجري، ناهيكم عن اعداد استراتيجية للتكيف معه، الطريق لكل انماط المبادرات المثيرة للاهتمام.

فقد أصدرت جماعة تسمي نفسها اتحاد المنظمات الاسلامية في فرنسا، «فتوى» تدعو الشباب المسلمين الى ايقاف تمردهم. والرسالة واضحة: فبدلا من طاعة قوانين الجمهورية الفرنسية يتعين على المسلمين في فرنسا اتباع «الفتاوى» التي يختلقها الاخوان المسلمون. وقد ظهرت طائفة مختلفة من الوسطاء ومعظمهم أعضاء في جماعات اسلامية متطرفة على المستوى المحلي في أماكن كثيرة، وقدموا أنفسهم باعتبارهم بديلا عن سلطة الدولة.

وفي النهاية الأخرى للطيف تكاثر عدد من الجماعات الفاشية المتطرفة في الأحياء، خصوصا القريبة من باريس، وهي تدعو الى تشكيل ميليشيات مسلحة لمقاتلة مثيري أعمال الشغب. وبزعم أن فرنسا تدفع حاليا الى حرب أهلية، فإنهم يدعون الجيش للنزول الى الشوارع وتطبيق الأحكام العرفية في المناطق المتأثرة.

والسؤال الذي يسعى الجميع الى تجنبه يخص طبيعة ما يرغب المجتمع المهذب في باريس أن يسميه «العنف المديني». ووفقا لليسار، خصوصا الحزب الاشتراكي غير الاصلاحي، فإن المشكلة ناجمة عن خفض الاعانات الحكومية مما أدى الى تقليص الخدمات الاجتماعية في المناطق المتأثرة.

ويشعر الاشتراكيون بالأسى من قرار ساركوزي بإلغاء ما يعرف باسم «شرطة الاحياء»، التي اسستها الحكومة الاشتراكية السابقة. و«شرطة الاحياء» كانت عبارة عن ورقة توت لإخفاء حقيقة ان الشرطة الحقيقية، بالإضافة الى الاطباء ورجال الاطفاء ومفتشي المدارس وغيرهم من ممثلي الجمهورية، لم يكن لهم وجود يذكر في عشرات الاحياء لسنوات. ولا تملك «شرطة الاحياء» سلطة لكشف الجرائم ولا القبض على المجرمين، ولا حتى اصدار تقارير عن النشاطات الاجرامية، لكن يمكن ان تلعب كرة قدم مع المراهقين، او تنظم لهم رحلات الى المصايف والإشراف على المسابقات الفنية.

ولا يوجد نقص في دعم الدولة في المناطق التي تعرضت للاضطرابات.

وذكر جان فرانسوا كوبي، المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، ان تلك المناطق استفادت من «دعم مالي هائل» في السنوات الثلاث الماضية. وتجدر الاشارة الى ان نصف السكان يعيشون اعتمادا على الاعانات الحكومية. والمناطق التي تأثرت بالاضطرابات، اصبحت مناطق جذب لفاعلي الخير المحترفين والجمعيات والمؤسسات الخيرية وجماعات الضغط، والمنظرين الاجتماعيين، وبالطبع ما يطلق عليهم اسم «المصلحين الاسلاميين». ولسنوات عديدة، خصصت بعض البلديات ثلث ميزانيتها تقريبا لمثل هذه النشاطات على امل تجنب مثل هذه الازمات التي حدث الآن.

لا، لا يمكن تفسير تلك الازمة بمنطلقات ماركسية زائفة، فالناس لا يتجولون يحرقون المباني العامة ويطلقون النار على الشرطة، لمجرد انهم فقراء.

الحقيقة هي ان المناطق التي شاهدت الاضطرابات، تمثل مزيجا خطيرا يتفاعل فيه الفقر والتغير الثقافي والتوتر العنصري معا، لكن تلك العوامل وحدها ليست كافية للتسبب في الانفجار. فمنطقة باريس هي ايضا مقر لعديد من المهاجرين الآسيويين بصفة رئيسية من فيتنام والصين، الذين يعانون من الفقر، والتغريب الثقافي، ويتعرضون لنفس الضغوط الاجتماعية مثل سكان «المناطق المنفجرة».

ولا يعتبر الفرنسيون الاصليون الجاليات الآسيوية مصدر تهديد لكل ما هو فرنسي، ليس لسبب إلا لعدم وجود ادعاءات عالمية لديهم.

إلا ان الاقلية الاسلامية المهاجرة، تعتبر تهديدا، لأن الاسلام يعتبر نفسه دينا عالميا وبديلا للحضارة الغربية. ويشعر معظم الفرنسيين الاصليين الى ان حضارتهم وثقافتهم هي افضل ما خلقته البشرية، وان الادعاءات الاسلامية في غير محلها على الاقل.

تتعلق الأزمة بفكرة الفرنسية، إلا ان الكثير من القادة الفرنسيين باتوا يعتقدون ان الهوية الفرنسية تتسم بتفوق يجعلها فوق أي نقاش او جدال.

تكمن المشكلة في ان هناك ملايين المسلمين، خصوصا المتحدرين من عربية افريقية، الذين لا يشعرون بأنهم فرنسيون على نحو ما يشعر به الفرنسيون. كما ان البعض لا يشعر بأنه فرنسي على الإطلاق، وربما تكون الاوراق الرسمية للهوية هي الشيء الوحيد الذين يدل على هويتهم الفرنسية.

لذا، فإن السؤال يتركز حول ما اذا كانت فرنسا قادرة على إعادة هذه المجموعة من أبنائها الى شكل جديد من الشعور بالهوية الفرنسية. هذه المهمة اكثر صعوبة مقارنة بتحديات مماثلة واجهتها الولايات المتحدة وفرنسا. الولاء للدستور الاميركي، الذي يحترم كل الهويات، هو كل المطلوب في الولايات المتحدة. كما ليس بالضرورة ان يتحدث الشخص اللغة الانجليزية لكي يصبح اميركيا. بريطانيا، من جانبها، نجحت في مواجهة هذا التحدي من خلال سياسة تسمح للأقليات الدينية والعرقية بالعيش كما تريد، على اعتبار انهم لن يصبحوا انجليز حتى لو تعلموا لعبة الكريكيت.

ظلت فرنسا تحاول دمج مجموعات المهاجرين وتحويلهم الى «فرنسيين حقيقيين». عشية الثورة الفرنسية عام 1787، كان يقدّر عدد السكان الذين يتحدثون اللغة الفرنسية كلغة أم، بحوالي 12 بالمائة، وبعد مضي قرنين على ذلك الوقت، ارتفعت هذه النسبة الى 90 بالمائة. لبلوغ هذا الهدف اتبعت انظمة الحكم الفرنسية المتعاقبة سياسية ثابتة ومتشددة ازاء القضاء على عشرات اللغات والثقافات، سعيا للوصول الى شكل فريد ومتميز للهوية الفرنسية.

نجحت تلك السياسة لأن اللغات والثقافات التي دمجت كانت تتحدر من مجتمعات مسيحية واوروبية منذ قرون.

الدمج الآن بات اكثر صعوبة من أي وقت مضى، لأن المجموعات العربية والافريقية المسلمة، ليست مسيحية ولا اوروبية. ربما يكون هؤلاء على استعداد ان يصبحوا اوروبيين بعض الشيء، لكنهم في المقابل يريدون ان يصبح الفرنسيون مثلهم في بعض الجوانب. بمعنى آخر، انهم يطالبون بهوية فرنسية جديدة مؤلفة من المفهوم التقليدي للهوية الفرنسية الى جانب مفاهيم عربية وافريقية وإسلامية. إذ لا يمكن ان تصبح هناك تعددية ثقافية من دون الاعتراف بأن ثقافتك ربما تتأثر في مرحلة ما بالثقافات الاخرى، بما في ذلك الثقافات التي كانت تعتبر في السابق دخيلة وحتى خطرة.