لئلا تقود أميركا العالم إلى كارثة: تهلكها وتدمره

TT

بقدر ما تنتقد الإدارة الأميركية أوضاع الدول والمجتمعات في العالم، وبقدر ما تلح على اصلاح هذه الاوضاع: بقدر ذلك ـ وأكثر وأشد وأحد منه ـ: يجب أن يوجه النقد الى السياسات الأميركية الخارجية.. لماذا؟.. مع ان الجواب العام بدهي فلا مانع من ايراد شيء من التفاصيل البدهية، في عالم يحتاج الى التذكير بالبدهيات!!.. إن الولايات المتحدة دولة كبرى مؤثرة ـ بقواها المتعددة المتنوعة ـ في العالم كله، فهي داخلة في نسيجه الثقافي والاعلامي والسياسي والاقتصادي والأمني. ومن هنا، فإن هذا البلد كما يؤثر ايجابيا بتقنياته المفيدة ـ مثلا ـ يؤثر ـ سلبا ـ في العالم بتوجهاته وقراراته ورؤاه الفكرية والسياسية الاستراتيجية الخاطئة، بل المنحرفة.. والبدهية الثانية: ان الولايات المتحدة ذاتها أحوج ما تكون الى التغيير والاصلاح العميق الناجز.. فالسجون والاقبية السرية التي أنشأتها حول العالم، وسجنت فيها ألوف الناس واستعبدتهم فخرقت بذلك القوانين الأميركية والدولية.. والفساد الاداري الضخم المفزع الذي ادى الى شن حروب طاحنة بناء على اكاذيب ادارية كتلك التي اتهم بها لويس ليبي (مدير مكتب ديك تشيني)، وهي فضائح ومفاسد في قمة الجهاز الاداري في السلطة، اضطرت الرئيس الأميركي جورج بوش الى اصدار أوامر تجبر موظفي البيت على تلقي (محاضرات عن الاخلاق)!!. وهذا اجراء بعدي بائس يأتي بعد (خراب البصرة وواشنطن.. و).. هذا كله ونظائره: يجعل الولايات المتحدة الأميركية أحوج الدول والانظمة الى التغيير والاصلاح.. اما البدهية الثالثة فهي ان الولايات المتحدة اذا استمرت في سياساتها الدولية هذه: سياساتها النزقة المتخبطة المؤدلجة المتصهينة، فإنها ستجر العالم كله ـ بلا ريب ـ الى كوارث متلاحقة: تقوض استقراره تقويضا، وتبعد عنه احتمالات الأمن الدولي، وفرص السلام: الوطني والاقليمي والعالمي.

وانزلاق الولايات المتحدة (بدفع من حماقات وايديولوجيات الغلاة القدامى): الذين يسمون خطأ بالمحافظين الجدد.. انزلاق أميركا الى هذه (الفوضى القاتلة): ليس رؤية اناس غير أميركيين يراقبون الاوضاع من الخارج، بل هي (رؤية أميركية وطنية): جهر بها من الداخل ـ وبموضوعية وحزن ـ نخبة وطنية أميركية، روعهم ما يحيق ببلادهم من مخاطر مهلكة وكوارث ماحقة.

واذا كان العالم قد استمع كثيرا الى اكاذيب ومفاسد (الغلاة الجدد) الذين يديرون شؤون الولايات المتحدة وهم (غير منتخبين)!!. فإنه يتعين على هذا العالم نفسه ان يستمع بانتباه وطول وقت الى هؤلاء الأميركيين الوطنيين الكبار وهم يصرخون من الألم، ويصورون بنباهة وواقعية وشجاعة ما آلت اليه أوضاع بلدهم في عهد الحفنة المتصهينة التي اختطفت سياسات بلادهم، بل اختطفت قدراتها ومصائرها:

1 ـ ليستمع العالم الى ميلغين ليرد، وزير الدفاع الأميركي الاسبق وهو يقول: «ان الديمقراطية الأميركية في العراق هي ديمقراطية احتلال مفروضة بالقوة، ديمقراطية خرجت عن مضمونها واهدافها الانسانية الحقيقية. ان مشكلتنا الكبرى وازمتنا الاساسية هي: اننا نريد ان نصبح قوة عظمى من خلال القتل والاعتقال والتعذيب واراقة الدماء، ولذلك سينظر العراقيون الى الأميركيين على انهم السبب الرئيسي لآلامهم وتدمير بلادهم ونشر الفوضى في انحائها».

2 ـ وليستمع العالم الى هنري وكسمان ـ عضو مجلس النواب الأميركي ـ وهو يقول، امام المجلس: «ان قليلين هم الذين يدركون مدى فشل جهودنا لاعادة اعمار العراق. فإدارة بوش انفقت بلايين الدولارات من دافعي الضرائب الأميركيين الا ان التقدم الحقيقي في حكم المعدوم».

3 ـ وليستمع العالم الى الرئيس الأميركي الاسبق: جيمي كارتر هو يقول: «ان سياسات الادارة الأميركية الراهنة قد حطمت بقسوة واستهتار المعايير الاخلاقية التقليدية للسياسة الأميركية في كل العهود».

4 ـ وليستمع العالم الى الجمهوري الملتزم المخضرم (برنت سكوكروفت): مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس بوش الأب، وأحد كبار منظري الحزب الجمهوري.. ليستمع العالم الى هذا الرجل وهو يقول: «ان مأساتنا في العراق دليل على العمى الاستراتيجي الذي تتمتع به هذه الادارة. ها نحن اليوم في العراق، ونمتلك العراق، ولكن يجري اقتناصنا فيه. لقد نصحناهم قبل الحرب وقلنا لهم: سينظر الينا كقوة محتلة في بلاد معادية، ولكنهم لم يسمعوا. كيف يريد المحافظون الجدد جلب الديمقراطية الى العراق عن طريق الغزو والتهديد والضغط والتنصير؟ لقد قيل ان هذا جزء من الحرب على الارهاب، الا ان العراق اصبح بيئة واسعة تغذي الارهاب وتدعمه».

5 ـ وليستمع العالم الى زبغنيوبريجنسكي: مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد كارتر وهو يقول: «توصل ارنولد توينبي منذ 60 عاما في مؤلفه العظيم (دراسة التاريخ) الى ان السبب النهائي لانهيار الامبراطوريات هو (انتحار الحكمة السياسية) وللاسف بالنسبة لمكانة جورج بوش التاريخية والأكثر اهمية من ذلك بالنسبة لمستقبل أميركا، تبدو عبارة انتحار الحكمة السياسية منطبقة على السياسات التي تتبعها أميركا منذ كارثة 11 سبتمبر وعلى الرغم من وجود بعض التلميحات في الاونة الاخيرة الا ان الادارة ربما تبدأ في اعادة تقييم اهدافها المتبلورة حتى الآن في اطار شعارات متعلقة بتدخلها العسكري في العراق، فان خطاب الرئيس في 6 اكتوبر 2005 كان ردة لصالح الصيغ الديماجوجية التي استخدمها خلال حملته الانتخابية بتبرير الحرب التي بدأها هو. هذه الحرب التي دافعت عنها دائرة محدودة من صانعي القرار لاسباب لم يتم الكشف عنها بعد، وتم الترويج لها عبر شعارات ديماجوجية تعتمد على تأكيدات كاذبة، قد اصبحت ذات كلفة كبيرة من الدماء والاموال اكثر مما كان متوقعا. وأدت الى انتقادات حادة في جميع انحاء العالم، في الوقت الذي جعلت أميركا في الشرق الاوسط وريثة للامبريالية البريطانية وشريكة لاسرائيل في القمع العسكري للعرب، وهو تصور اصبح منتشرا في العالم الاسلامي كله.. ان الدولة التي كانت لعقود طويلة تقف شامخة الرأس تعارض القمع السياسي والتعذيب وغيرهما من انتهاكات حقوق الانسان، قد انكشفت من حيث انها، اي أميركا، دولة تؤيد ممارسات يصعب اعتبارها احتراما للكرامة الانسانية. فعمليات التعذيب في جوانتانامو وابو غريب لم تكشف عنها ادارة غاضبة محتجة «!!» بل كشفتها وسائل اعلام أميركية. ولم يحدث ان اجبر اي مسؤول من كبار المسؤولين المدنيين او العسكريين بوزارة الدفاع او مجلس الأمن القومي على الاستقالة. ونتبين هنا: ان معارضة الادارة الأميركية للمحكمة الجنائية الدولية هي معارضة تخدم مصالحها وتوجهاتها تماما في هذا المجال.. ويمكن القول باختصار: ان فريق بوش ظل يعمل على مدى السنوات الاربع السابقة بطريقة نتج عنها ضعف أميركا واضعافها على المستوى العالمي من خلال اقحامها في نزاعات اقليمية تتحول الى ازمات دولية. وأميركا بما لها من قوة متعددة تستطيع السير في هذا الاتجاه الخاطئ، ولكن لفترة محدودة تصبح معها وبعدها معزولة في عالم معاد وأكثر عرضة للاعمال الارهابية».

بمقتضى هذه الرؤى الأميركية القوية الامينة الواضحة: يجب ان ينخرط احرار العالم وعقلاؤه في عملية نقد واسعة للسياسات الأميركية الطائشة. يجب ان يفعل عقلاء العالم ذلك لئلا يكونوا (بسكوتهم ومداهنتهم) عونا لغلاة الادارة الأميركية على تدمير أميركا، وتدمير العالم معها في ظل شعار بائس (لنسقط متحدين)!!

ونلتفت الى حكام العالم العربي الاسلامي لنقول لهم: ينبغي ان تحذروا من المشي الاعمى وراء السياسات الأميركية الخاطئة المتصهينة. فقد قال الله لكم «ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار» وينبغي ان تحذروا ان يكون مقياس نشاطكم (صهيونيا)، بمعنى ان تكون تفاصيل النشاط (ذكية) بيد ان اطارها العام محكوم بأجندة صهيونية مغلفة بغلاف أميركي.

ثم ان كراهية السياسات الأميركية تتزايد بمعدلات مرعبة في العالم كله، وفي العالم الاسلامي بوجه خاص، وهي كراهية ستجعل المسلمين (يكرهون) الاصلاح الذي تصر الادارة الأميركية على انه من صنعها والموقف العبقري العملي هو: الاستقلال التام بالإصلاح عن شعارات امريكا: مفهوما وموضوعا وبرامج واستمرارا.

ولتكن المروءة والعقل حاضرين في الباعث والأسلوب والهدف. ومن المروءة والعقل: بذل العون والنصح للولايات المتحدة حتى لا تخطئ أكثر. ويتعين النصح على الذين استفادوا منها كثيرا. فالعلاقة السياسية السوية بين الدول ينبغي ان تكون كالعلاقة الفيسيولوجية بين القلب والشرايين: أخذ وعطاء، إمداد واستمداد.