الانتهازية باسم الإسلام ليست حلا

TT

في خريف 1988، واجه سياسي هندي هزيمة انتخابية في ولاية تاميل نادو ونصف ناخبيها من المسلمين الريفيين، بعدما نشرت الصحافة عنه غسيلا يزكم الأنوف، بينما رجحت استطلاعات الرأي كفة مرشح الشيوعيين.

لم ينقذ المرشح المفضوح من الغرق سوى صيحة مساعده: «يوريكا.... جاءنا الفرج يا معلم» دافعا بمجلة «انديا توداي» وفيها مقابلة مع الروائي البريطاني، الهندي المولد، سلمان رشدي، وتحليل نقدي لروايته «الآيات الشيطانية».

تناولت المجلة نقد الرواية التصورية حول حادثة في الجزيرة العربية في فجر الدعوة الإسلامية، اختلف المؤرخون حولها في رسائل الماجستير والدكتوراه، في اللاهوت والتاريخ الإسلامي، فيما إذا كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد ادخل تصحيحا على سورة النجم بحذف ثلاث آيات، في التلاوة الثانية بعد ان تضمنتها التلاوة الأولى عام 617. وليس هنا مجال التفصيل في حادثة سلمان رشدي.

وبينما تساءلت انديا توداي عن تسمية رشدي لأبطال الرواية وتركيبة السرد الروائي للأحداث، التي تناولت معيشة الأقلية المسلمة في بريطانيا، طبع المرشح منشورات باطلة ادعى انه يدافع عن الإسلام والمسلمين المضطهدين ضد مؤامرة ضدهم يدبرها رشدي الذي تحتضنه بريطانيا الاستعمارية. وكانت الفتاوي والمصادمات وحرق الكتب وسقوط ضحايا لم يقرأوا الرواية أصلا، مقابل نجاح المرشح، الذي سقط في الانتخابات الثلاث التالية بعد ان كشف الناخب انتهازيته التي اشعلت الفتنة.

تذكرت الحادثة عند قراءتي، للأسف، سيل المغالطات من بعض الكتاب الصحافيين المصريين المعروفين بالترويج لأيدولوجية بعض الأصوليين، وهم يلوون عنق الحقيقة حول فتنة طائفية عمل مرشحو الإخوان في الإسكندرية على إشعالها، بترويج مغالطات حول مسرحية يقال إن فرقة من الهواة قدمتها في قاعة تابعة لكنيسة قبطية قبل عامين. ومن الضروري هنا التذكير بدور الإسكندرية التاريخي في طليعة التنوير وترويج المعرفة الحضارية، منذ مكتبتها، كأول جامعة أكاديمية دولية في التاريخ نشرت الحضارة المصرية في العصر الهيليني قبل 2000 عام بترجمة النصوص من الهيروغليفية الى اليونانية، لتصبح هذه النصوص منصة انطلاق عصر النهضة، وأساس الحضارة الغربية كلها.

وكانت المعارض وعروض الموضة وكونسيرات الموسيقي والأوبرات في الإسكندرية تتزامن، ان لم تسبق مثيلاتها في أوروبا.

ولذا فتقديم كنيسة إمكانياتها لعرض مسرحية ـ بصرف النظر عن مضمونها ـ هو استمرار لتقليد سكندري يعود لبطليموس الأول قبل 22 قرنا. ولا تزال تقدم الأديرة والمراكز الدينية (على اختلاف المذاهب) والمستشفيات، والمكتبات، خدمات تعليمية وثقافية وفنية لرفع الذوق والوعي وتثقيف الناس، (كقديم مسرحيات وروايات لكتاب مسلمين في قاعات كنائس مثل الجزويت في حي كليوباترا) وحتى جمعية الرفق بالحيوان في حي محرم بك، تعير ساحتها لمهرجانات مدارس إسلامية ولمدارس الرهبان.

روج بعض الأصوليين شائعات مضللة حول مضمون المسرحية مدعين كذبا استفزازها لمشاعرهم كمسلمين. قدرة الإخوان على النقد المسرحي مفاجأة لي، فهم لا يشاهدون المسرح أصلا، ويكرهون الفن ودور السينما التي وضعوا فيها قنابلهم في الأربعينات في قلب القاهرة.

ومثلما فعل المرشح الهندي الآيل للسقوط عام 1988، ساق بعض الأصوليين في الإسكندرية عام 2005 الغوغاء، مغررين ببسطاء لا يعرفون من الفن إلا غثيان الفضائيات، ليستهدفوا مصريين مثلهم، ويعتدون على راهبات فاضلات مسالمات فسالت الدماء المصرية من جروح أقباط ومسلمين. ولا يهم أولئك إشعال فتنة تمزق الأمة المصرية، في سبيل تحقيق غاياتهم المجهولة، خاصة بعد اهتزاز ثقة مرشحي الأخوان بأنفسهم.

تلقى بعض الأصوليين ركلة سياسية موجعة في أول انتخابات رئاسية متعددة في سبتمبر. فقد القوا بثقلهم السياسي وراء مرشح الوفد الذي انحنى أمامهم طمعا في تأييدهم الشعبي. فأرجعه تأييدهم الى المركز الثالث، بينما تقدم مرشح حزب الغد الذي حاربوه الى المركز الثاني.

والحياة النيابية ليست دخيلة على وادي النيل، اذ تعود الى الإصلاح الذي بدأه محمد علي باشا قبل مائتي عام حتى جاء نظام الحزب الواحد في مطلع الستينات، واستمر الخطأ 14عاما فقط حينما أصلحه الرئيس أنور السادات، أي لحظة عابرة في تاريخ مصر، استمر المصريون في التصويت وموازنة برامج المرشحين.

فأحزاب المعارضة المصرية الشريفة، التي تتفق كلها مع حزب الأغلبية الحاكم «الوطني الديموقراطي» على حب مصر، لها برامج سياسية محددة، لا تختلف كثيرا في دعوتها لتحرير وتطوير الاقتصاد وإصلاح السياسة، عن برنامج الوطني. ولذا فالناخب المصري أمامه برامج سياسية واقتصادية بالأرقام والتفاصيل باستثناء الأخوان الذين يطرحون شعارات فارغة المضمون من برنامج يستر دعاواهم الانتخابية عن عين الناخب المصري، الذي يدرس البرامج بالأرقام ونوع التشريعات التي ستصدر لوضع البرنامج موضع التطبيق.

وقد نلتمس العذر لجهلاء ضللتهم شعارات إشعال الفتنة، لكن لماذا ينزلق بعض الكتاب الصحافيين الى المشاركة في تلك اللعبة، مستهينين بعقولنا بالادعاء، كما فعل المرشح الهندي؟

إن مسلمي مصر ـ وهم الأغلبية باعتراف أولئك الكتاب، مضطهدون ومجني عليهم، أما الجناة فهم الأقلية القبطية مدعين بأنهم 6% من السكان، رغم ان نسبتهم تقدر بأكثر من ضعفي الرقم.

أما ادعاؤه بسيطرتهم على 30 أو 40% من النشاط الاقتصادي (والسؤال هنا ما هو مصدر أرقامهم؟) فهي تذكرنا بمغالطات وزير دعاية النازي جوزيف جوبلز ضد الأقليات، في تضخيم الأرقام عن سيطرة اليهود على التجارة، ومسؤولية الغجر عن الفساد الأخلاقي، وزعماء النقابات عن تعطيل الإنتاج، ومسؤولية المعاقين جسديا في إهدار الموارد وتشويههم للنقاء العرقي «للأغلبية» من الجنس الآري التي وصفها جوبلز بأنها مضطهدة في يد الأقليات. وكانت المحارق ومعسكرات الإبادة والوصمة الأكبر على جبين البشرية، بسبب بروباجندا مغالطات الأرقام!

ويا ليت القضاء المصري المستقل العظيم ينتبه الى هذه المغالطات، خاصة وان هناك قضية منظورة أمام محكمة النقض حول مخالفة شعار المرشحين الأصوليين بأن «الإسلام هو الحل»، للمادة 11 من القانون 175 لعام 2005 لأضراره بالوحدة الوطنية، ومناقضته للمادة 40 من الدستور. بل انهم يعرضون الدين الإسلامي للإهانة والإيذاء بمثل هذا الشعار المضلل.

فماذا يحدث إذا فشل صاحب الشعار بعد انتخابه في حل مشاكل دنيوية كالبطالة أو انقطاع التيار الكهربي؟ هل يعني ذلك فشل الإسلام كبرنامج، وبالتالي يجرب الناخب المسلم حلا آخر، باعتناق دين آخر؟

كان الإصلاحي الكبير الشيخ محمد عبده قد قال بعد عودته من فرنسا: «رأيت إسلاما ولم أر مسلمين» حيث قصد منهجا تحليليا يفصل بين العقيدة والفكر، وبين معتنقي هذه الأفكار. أي ان سلوك الأوروبيين والتزامهم بالديمقراطية وحب الوطن، كان اقرب لقيم ومبادئ الإسلام الذي يعرفه، من سلوك مسلمين على شاكلة بعض الأصوليين الذي رآه ابتعادا عن مقاصد ومبادئ واحدة من أعظم الديانات التي عرفتها البشرية. فليحمي الله مصر من شرور الفتنة، وليحفظ الإسلام من انتهازية بعض الأصوليين.